لا يستطيع أيّ مراقب للشأن اللبناني أن ينكر واقع الحال المأزوم للفريق الحاكم. هذا الفريق الذي دأبت في كتاباتي كلّها على تسميته بـ "فريق إيران في لبنان"، وذلك انطلاقًا ممّا يصرّحه أمين عام "حزب الله"، مايسترو هذا الفريق. هذا فضلًا عن تباهي الذين بايعوه العمالة معه لإيران. وعلى مسرح المفاوضات الدّوليّة، وعلى وقع الانتخابات الأميركية المرتقبة، وتحت وابل القذائف والصواريخ التي تنهمر على رؤوس الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين واليمنيين، الكلّ يبحث عن حلّ ولا يعرف لا متى سيأتي أو من أين.
ممّا لا شكّ فيه أنّ محور إيران في المنطقة تصدّع بعد حرب الابادة التي تتعرّض لها غزّة والشعب الفلسطيني، وذلك بعد سقوط نظريّة وحدة الساحات التي ولدت في مطبخ حارة حريك في أيلول المنصرم قبل عمليّة السابع من أكتوبر. فضلًا عن عودة إيران إلى البازار التفاوضي في محاولة منها للاستفادة من مومنتوم لانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، مع إدارة ديمقراطيّة مأزومة هي الأخرى.
وما التهدئة التي تحاول إيران فرضها في الساحة العراقيّة إلا دليلا على مدى مأزوميّة هذا الفريق في محاولة منه لهضم ما قامت به الفصائل الموالية لإيران بعد ضربها بعض القواعد الأميركيّة. وهنا لا بدّ من التّساؤل فيما إذا كان الأميركي سيهضم هو نفسه هذه الاعتداءات. مقابل ذلك تتصعّد الهجمات الحوثيّة على خطّ الملاحة الدّوليّة ما يكبّد العالم المزيد من الخسائر الاقتصاديّة التي باعتقادي قد نفد صبر الدّول من تحمّل أعباء هذه الخسائر. ما يعني ذلك عمليًّا أنّ قرار تحجيم الحوثي قد بدأ تنفيذه، لكنّ÷ سيرتبط بتطوّرات الميدان في غزّة لأنّها الأساس في الاقليم راهنًا.
أمّا الوضع السوري فيبدو أنّ الاستقرار فيه دونه محاذير كبرى ترتبط بارتباطات الجماعات المتناحرة. وبين حماس وجبهة جنوب لبنان تحت مسمّى المساندة والدعم لغزّة، تمّ تدمير هذه الدّول، ويعمل راهنًا للقضاء على ما بقي منها. ولاسيّما لبنان الدّولة الذي أصبح بنظر الغرب، بعد فشل الوساطة الفرنسيّة، يمثّل دولة محور إيران على شاطئ المتوسّط. ما يعني ذلك عمليًّا أنّ العدوّ الاسرائيلي بات يملك ضوءًا أخضر مضمرًا ليبدأ عمليّة تدمير شامل لما تبقّى من لبنان، والحجّة طبعًا هي لضرب قدرة "حزب الله" التي باتت تمثّل بنظر الغرب والعدوّ الدّولة اللبنانيّة برمّتها.
هذا في الميدان العسكري، أمّا سياسيًّا فهذا الفريق مكبّل سياسيًّا من قبل نواة معارضة تتّسع آفاقها يومًا بعد يوم. لذلك يتجنّب المايسترو التشريعي فتح أبواب المجلس لعدم منح المعارضة فرصة ذهبيّة لإثبات حجمها أكثر أمام المجتمع الدّوليّ. هذا المجتمع الذي لن يقدم على أيّ عمل يضرّ بمصالحه كرمى عيون أحد، كائن مَن كان. ويخطئ مَن يظنّ أنّ حلًّا ما قد يفرض من قبل هذا المجتمع بمنأى عن أيّ حراك داخليّ.
لذلك كلّه، هذا الفريق بات عالقًا اليوم بالتزامات فرضها على جمهوره بحجّة الايديولوجيا والانتماء الديني. ولن يستطيع التفلّت منها إلا بعمليّة هروب إلى الأمام. لكنّه يدرك أنّ هذا الهروب إن كان بإعلان حرب صريح ضدّ العدو الاسرائيلي، فستكون عندها مقامرة لن يتمكّن من ضمان صفر بالمئة من نتائجها. لذلك، الخشية هنا من أن يقوم هذا الفريق بعمل ما في الدّاخل اللبناني، وليس من لضرورة أن يكون هذا العمل عملا عسكريًّا، يؤدّي إلى إعادة خلط للأوراق السياسيّة كلّها.
لكن، باعتقادنا حتّى هذا المفتاح لقد أضاعه بعد إقحام لبنان في أتّون الحرب. حتّى بات في ثلاجة لا يعرف كيف يخرج منها. هذه المأزوميّة لا بدّ أن تفضي إلى حلّ نهائي. إن استمرّ فريق إيران بفرض أمر واقع يربط فيه مصائر اللبنانيين كلّهم بمصير حروبه ومشاريعه الاستعماريّة – الاستيطانيّة، لن يسكت اللبنانيّون الأحرار على هذا الجور الذي قد يطيح بما تبقى لهم من مساحة حرّيّة يعيشون فيها قناعاتهم. فهل يسبق هؤلاء بفرض أمر واقع جديد على الأرض انطلاقًا من الحاجات البسيطة لاستمراريّة الحياة؟
لا بدّ لاتّخاذ مبادرة ما والانطلاق بتنفيذها، مع العلم أنّ أيّ مبادرة ستصطدم بعراقيل القمع المقونن لتنفيذها من قبل محور إيران وسلطته في لبنان. لذلك، لن يتمكّن الأحرار من فتح أيّ كوّة في جدار هذه الأزمة إلّا إن اتّخذوا زمام المبادرة غير آبهين بالعواقب القانونية التي قد تفرضها هذه السلطة. من هنا، ضرورة الانتفاضة باتت واجبًا وطنيًّا بامتياز، لم يعد بالامكان التغاضي عن تنفيذه. لأنّ الحفاظ على ما تبقى قد يفضي إلى حلّ جذري. أمّا أيّ تخاذل بحجّة الانتظار الهيغليّ لحكم التّاريخ سيطيح بمَن تبقّى، لأنّ الانتظار قاتل ويولّد اليأس في النفوس الضعيفة. وحذارِ لأنّها باتت أكثر ممّا يمكن أن يتصوّره العقل.
فهذه المأزوميّة لا بدّ ذاهبة إلى حلّ جذريّ؛ لكن علينا أن نبقى حذرين كي لا يكون هذا الحلّ على حساب ما تبقى من كرامة للأحرار في هذا الوطن. ولا يمكن التّهاون بقدرات هذا المحور الشريرة والمفاوضاتيّة لأنّه قادر أن يقدّم في حين أنّ المعارضات التي نشأت في دول الأذرع ما زالت حتّى الساعة عاجزة عن تقديم البدائل. لكن من المهم الادراك بأنّ قناعة دوليّة قد تبلورت بعد السابع من أكتوبر بالقضاء على تطرّفين حاكمين في المنطقة، وهما قطبا الصراع في القضيّة الفلسطينيّة، أعني هنا التطرّف اليهودي والتطرّف الحمساوي، وما تمثّله هذه الحركات في المنطقة.
وكما كتبنا سابقًا، لفهم طبيعة هذا الصراع وهذا التبدّل لا يمكن استثناء البعد الاقتصادي الذي هو المضمر وراء هذه الأزمات كلّها. فالحرب المقبلة لن تكون سوى بالاقتصاد ما بين الاقتصاد الأصفر والأحمر من جهة والاقتصاد الأميركي - الخليجي من جهة أخرى. فهل سيجد لبنان لنفسه مخرجًا وسط هذا الصراع؟