دخل لبنان في الجزء الأخير من نفق المواجهة التي أدخله في صلبها "حزب الله". وذلك بإعلانه رسميًّا تحويل الدولة اللبنانيّة من جمهوريّة للبنانيين كلّهم إلى جمهوريّة على قياس المشروع الممانِع. هذا المشروع الذي أطاح بتبنيه من قبل طغمة من السياسيين المستزلمين والمستوزيرين عند قيادة هذا المحور بمقوّمات وجود الدّولة كلّها؛ حتّى بات لبنان الجمهوريّة بنظر المجتمع الدّولي دولة غير موجودة. وما حلّ محلّ هذه الدّولة هو دولة المنظّمة التي صنّفتها معظم دول هذا المجتمع بمنظّمة إرهابيّة.
ما بين التطويع النّاعم والإخضاع القاتل
عمليًّا هذا الكلام يشير إلى نجاح مشروع "حزب الله" بإسقاط ما تبقّى من الدّولة اللبنانيّة، وذلك بهدف إلزام المجتمع الدّولي على مفاوضتها لتمنّ عليه ببعض من التنازلات التي إن حصلت ستكون خدمةً للعدوّ. أمّا الهدف الثاني، وباعتقادي هو الأهمّ، يكمن في عمليّة تطويع مَن لم يتمّ تطويعه حتّى الساعة من اللبنانيّين، وإخضاع أولئك الذين نجحت بتطويعهم حتّى إخضاعهم فإلغائهم من الوجود المؤسّساتي ومن المعادلة الوجوديّة للدولة اللبنانيّة.
فمواقف وزير خارجة حكومة المنظّمة سبق فتبنّى موقفها في الصراع الإقليمي. واليوم استكمل هذا النّهج وزير الإعلام الذي تبنّى علنًا سرديّة الممانعة في موضوع النّزوح السوري، محاولًا إسقاط فشل حكومات الممانعة المتعاقبة على القوى السياديّة التي من اللحظة الأولى لهذه الأزمة قدّمت مقترحات وحلول بنّاءة، لو تمّ الالتزام بها لما تفاقمت مشكلة النّزوح كما هو واقع الحال اليوم.
فضلًا عن إنكار رئيس حكومة المنظّمة بشكل واضح وصريح، أمام الاعلام، قدرة حكومته على اتّخاذ قراري الحرب والسلم، واعترافه العلني أمام الملأ بأنّه لا يملك القرار، وهذا القرار بالتحديد هو بيد المنظّمة.
محاولة تفكيك آخر ركن من أركان الدّولة
وذلك كلّه، وسط موجة جديدة ابتدأت المنظّمة ببثّها عبر كتابات وتصريحات بعض الاعلاميين والصحافيين الذين يدورون في فلكها تدعو فيها إلى تفكيك مؤسسة الجيش اللبناني، وذلك بالتحوّل من قيادة مسيحيّة للجيش إلى مجلس أركان قيادي، يكون فيه "حزب الله" فصيلاً مشاركًا في القرار بعد انضمامها إلى هذا الجيش. وخطورة هذا الطرح لا تكمن فقط بفكفكة مؤسّسة الجيش اللبناني، بل بالسيطرة على قرارها من خلال العدديّة التي ستطغى حتمًا على أيّ مجلس قيادي بفعل امتلاك فائض القوّة من السلاح. إذ تكون المنظّمة قد نقلت فائض قوّتها من الشارع إلى صلب مؤسّسة الجيش، وبالتّلي تقوّضها وتصبح جيفة لا تتحرّك إلّا بأمرها.
باعتقادنا، مع القيادة الحكيمة للمؤسّسة العسكريّة، ومع الدّعم السيادي - السياسي الذي تلقاه هذه المؤسّسة وقيادتها، من الأسهل على "حزب الله" ألا يبحث بأيّ حلّ يخرجه من القمقم الذي وضع نفسه به سوى بالعودة إلى الدّولة. لكن المؤسف أنّ التّجارب مع هذا الفريق علّمتنا واللبنانيين كلّهم معنا، بأنّ هذا الفريق بالذات لا يوجد في عقيدته أيّ حدود جغرافيّة، لأنّه يرتبط إيديولوجيًّا بمشروع أبعد من الحدود اللبنانيّة.
ما بين انسحاب ال 2000 في لبنان وسلطة حماس 2006:
هل يكرّر العدوّ الاسرائيلي أخطاءه؟
هذا في السياسة. أمّا في عسكرة الميدان، فما من عاقل ينكر بأنّ أيّ صاروخ يطلق من جنوب لبنان لا يمرّ تحت مجهر "حزب الله". من هنا تقرأ الرسائل الصاروخيّة التي تتبنّاها الكتائب الفلسطينيّة العاملة تحت ألوية حركة حماس، بإشراف الحزب.
هذه المعطيات كلّها أعطت العدوّ الاسرائيلي الحجج المبرِّرَة لحربه على لبنان – مع العلم أنّه لم يكن يومًا بحاجة إليها- وذلك لينطلق إلى المرحلة الثانية من حربه على ما يطلق عليه الغرب " الاسلام السياسي". وبالطبع، نرفض هذه التسمية من موقعنا المتقدّم بحمل لواء القضيّة اللبنانيّة، وبالتبشير ليل نهار بالكِيَانيّة اللبنانيّة التي تقوم على عيش الوحدة في صلب التعدّديّة الحضاريّة التي يجسّدها الواقع الاثنو – جغرافي اللبناني.
لن يقبل العدو الاسرائيلي بتكرار الأخطاء المتتالية التي كرّرها بالانسحاب من الجنوب اللبناني في العام 2000، بعد الضمانات التي تعهّدت بها المخابرات الألمانيّة كطرف دوليّ، والجيش السوري كضمانات إقليميّة. لذلك، هو ينفض الغبار عن خطّة استعادة شريط حدودي جديد. ولن يقبل أيضًا بأن يعيد تسليم السلطة السياسيّة لحركة حماس، كما حدث في انتخابات 2006، بهدف إضعاف مجرّد فكرة قيام دولة فلسطينيّة، عبر ضرب السلطة الشرعيّة الفلسطينيّة التي اعترفت بها الأمم المتّحدة ومعظم الدّول الكبرى كممثّل شرعيّ للشعب الفلسطينيّ.
من التدمير إلى البناء
من هذا المنطلق، لا يعتقدنَّ أحدٌ أن مَن وهب الخطّ29 للعدوّ الاسرائيلي لا زال يملك ما قد يتنازل عنه؛ ولاسيّما بعدما بات هذا الفريق محرجًا نتيجة صمته الاستراتيجي الذي يدفع ثمنه من أرواح وممتلكات اللبنانيّين. وهذا ما يرجّح فرضيّة تلقّيه ضربة مؤلمة، بغضّ النّظر عن كلّ الحلول الاستباقيّة التي ما فتئ يقدّمها، إن في السياسة وإن في الميدان، وما قد يسري في غزّة في شهر رمضان، يبدو انّه لن يسري على الجبهة الجنوبيّة. وقد يتمّ حذف مجرّد فكرة إدخال "حزب الله" في أيّ مساعٍ ديبلوماسيّة.
وهذا ما سيعطي العدو هامشًا ديبوماسيًّا ولوجستيًّا أكبر للتحرّك على جبهته الشماليّة. ما يعني ذلك، استمرار اصطياد قيادات مناوئيه بشكل تصاعديّ، حتّى ينجز أمر من اثنين في غزّة: إمّا هدنة مؤقّتة يفرض فيها شروطه لتحرير ما يستطيعه من رهائن؛ وإمّا الإجهاز على حماس عسكريًّا حتّى دفعها إلى الاستسلام وتسليم الرّهائن. وفي الاحتمال الثاني يكون العدو قد ذهب إلى الحدّ الأقصى من سياسة الهاوية الديبلوماسيّة حتّى المخاطرة برهائنه الذين قد يصبحون أكباش فداء لبقاء دولته.
أمام هذه الوقائع، لا يبدو أنّ القدرة التي يبديها الاعتدال الوطني في سعيه المشكور على الدّفع نحو عمليّة انتخابيّة جديدة قد تؤتي بثمار رئاسيّة مرتقبة على وقع التطوّرات الميدانيّة، فلا يعد لبنان البلد المقهور. وأمام عجز القوى السياديّة على مواجهة مشروع بحجم المشروع الثوروي الذي تقوده الجمهوريّة الإسلاميّة؛ هل يتحمّل المجتمع الدّولي مسؤوليّته تجاه القضيّة اللبنانيّة، ويدفع باتّجاه الحلّ عبر الضغط على إيران وحلفائها للإفراج عن الرئاسة المخطوفة؟ أم سيترك لبنان الذي بات بنظره لبنان – حزب الله، ليلقى مصيره التّدميري على أمل إعادة بنائه في العصر الجديد الذي سيدخل فيه الشرق الأوسط؟