على ضوء استعمال الطائرات من دون طيار أو المسيرات في حربي العراق واليمن واستهدافات الإيرانيين والحوثيين الدقيقة لمنشآت الآرامكو ولمحطات تحلية مياه البحر في السعودية، ثم في حربي أوكرانيا وغزة، وفي هذه الأخيرة برز دور المسيرات الإسرائيلية المجهزة بالذكاء الإصطناعي، باتت الحروب تتطور بسرعة حيث أن المسيرات ذات التكلفة المنخفضة أصبح من الممكن أن تصبح ذكية وتبحث عن أهدافها بنفسها وتقرر مسارات طيرانها بنفسها ... مما يجعلها عنصر تكنولوجي بالغ الأهمية يغيـّر في اللعبة العسكرية، ويؤخذ في الحسبان جيوسياسياً، ونحن اليوم في مرحلة شبيهة بمرحة تطور المدافع، خاصة البحرية منها، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مما خلق نوع جديد من موازين القوى.
تنكب اليوم القوى العظمى والدول ذات القدرات العسكرية المتواضعة على السواء، إلى تطوير الرؤية بالنسبة للمواجهات العسكرية المستقبلية، محورها المسيرات الذكية، خاصة وأن تكتيات المسيـّرات الروسية الكلاسيكية في أوكرانيا برهنت عن فعاليتها ولو أنها لم تحسم الحرب. الروس يهاجـِمون أهدافاً أوكرانية بأسراب من المسيّرات الإيرانية الصنع من طراز "شاهد 136" المنخفضة التكلفة، فيتم إسقاط 80 إلى 90% منها، وما ينفذ ينقض على أهداف ثمينة مثل بطاريات صواريخ مضادة للطائرات ومرابض مدفعية ودبابات وغيره من الأعتدة العسكرية.
الجيوش المتطورة كالجيش الأميركي أو الروسي أو حتى الأوكراني تستطيع إلى حد كبير إسقاط المسيرات، ولكن تبين أنه إذا استعملت المسيرات بكثافة وضمن أسراب تصبح قادرة أن تهاجم هدفاً واحداً وتدمره رغم إسقاط معظمها وبالتالي لديها القدرة على الإخلال بموازين القوى العسكرية.
بمعنى آخر يمكن لدول ذات موارد محدودة، أو تنظيمات مسلحة، تصنيع مسيرات تستطيع إجتياز أكثر من 2000 كم، وها هي على سبيل المثال ميليشيات الحوثي تستعمل المسيرات لإستهداف السفن في البحر الأحمر، وهي تهدد باستعمالها لاستهداف رأس الرجاء الصالح الذي يبعد ستة آلاف كيلومتر عن اليمن والذي تمر عبره السفن التي تتفادى البحر الأحمر.
إن تكلفة هكذا مسيرات هي منخفضة نسبياً وكذلك تكلفة تزويدها بأجهزة تصويب بصرية وجي بي إس كلاسيكية يمكن الحصول عليها من الأسواق حيث تستعمل لأغراض مدنية، فتحول لأغراض عسكرية.
أكثر من ذلك، إن حرب غزة الدائرة الآن أثارت القلق من إمكانية تزويد المسيرات بالذكاء الإصطناعي دون تكلفة عالية نسبياً، بحيث تستطيع اختيار مسالكها بنفسها وتفادي الرادارات والبحث عن أهدافها بنفسها واستثمار عامل المفاجئة، وهذا الأمر من شأنه تشكيل تهديد جدّي جداً لآلات الحرب في الدول العظمى، فحاملات الطائرات مثلاً باهظة الثمن، وكذلك القاذفات والمقاتلات الشبحية مثل الـB1B والـB2 والـF-35 والـSukhoi-57 والـSukhoi-75، والدبابات من طراز Abrams M1 وLeopard 2 وArmata T14، وهي تتطلب وقتاً طويلاً جداً لبنائها وتطويرها إضافة إلى موازناتها الضخمة التي لا يمكن أن تتحملها حتى الدول الصناعية الكبرى. إن هذه الأعتدة الثقيلة تستنزف الموازنات العسكرية، وستصبح في المستقبل عرضة للطائرات بدون طيار المزودة بالذكاء الإصطناعي، وهذه الأخيرة يمكن للدول الصغيرة والتنظيمات المسلحة مثل داعش والنصرة وحزب الله استحوازها.
نشرت مؤخراً صحيفة وول ستريت جورنال أن ضباطاً كبار من البحرية الأميركية يتوقعون أن تخاض في المستقبل حروب ضدهم بمزيج مترابط من الأسلحة الرخيصة ومن بينها المسيرات المزودة بالذكاء الإصطناعي، وليس بأنظمة أسلحة متطورة، وهذا يصبح واقعاً شيئاً فشيئاً، ويمكن القول إن التوازنات الحالية بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وروسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية من جهة أخرى، يمكن أن تتزعزع في حال لم يستعد الجميع لحرب المسيرات الذكية.
روسيا وبريطانيا وفرنسا تعاني من تأخير في مجال تصنيع المسيرات، وقد بدأت بتخصيص موازنات لهذه الغاية، وموسكو تستعيض عن النقص لديها بشراء المسيرات الإيرانية الصنع و/أو تصنيعها منسوخة محلياً، أما الصين وإيران، فهما مصدران رئيسيان للمسيرات، حيث الصين تبيعها للكثير من الدول، وإيران تزود بها الميليشيات المتحالفة معها.
لا يمر يوم واحد في الصراعات العسكرية اليوم من دون أن تستعمل فيه المسيرات، خاصة في أوكرانيا حيث يستعملها مقاتلون أفراد بشكل مكثف ويتحكمون بها عن بعد لتوجيه الرمايات المدفعية وإستهداف الأليات بمسيرات إنتحارية.
إن كشف هذه المسيرات وتعطيلها وإسقاطها هو قيد التطوير وبتقنيات منخفضة الثمن. أما المسيرات التي تستعمل ضمن أسراب، مثل التي توفرها إيران والتي تكلف كل منها آلاف الدولارات، فيمكن أن تهاجم سفنًا حربية تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وهذا ما يفعله الحوثيون ضد السفن التجارية والحربية في البحر الأحمر.
في هذا السياق قال الجنرال مايكل إريك كوريلا، قائد القيادة الوسطى الأميركية، للجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ أن المسيرات المنخفضة الكلفة هي "واحدة من أكبر التهديدات"، ووصف أسراب هذه المسيرات بأنها مصدر قلق أكبر، وأضاف إن الولايات المتحدة يجب أن تستمر في الاستثمار في وسائل مثل "أسلحة الموجات الصغرى العالية الطاقة" High-Powered Microwave Weapons للدفاع ضد المسيرات وأسرابها بالتشويش على أجهزتها.
وبالفعل يركز البنتاغون على تطوير جهازيات دفاع ضد أسراب المسيرات كما قال الجنرال كوريلا، وعلى بناء وتطوير نظام متكامل من طائرات بدون طيار مزودة بالذكاء الاصطناعي، وقد وقعت وزارة الدفاع الأميركية عدة عقود في هذين المجالين.
إضافة، هناك مبادرة أخرى للبنتاغون تُعرف باسم Replicator وهي بناء ونشر الآلاف من الطائرات من دون طيار المستقلة بذكائها الإصطناعي، على مدى السنتين القادمتين لمواجهة الصين في حال حصول مواجهة معها، خاصة في تايوان. من جهتها قالت نائبة وزير الدفاع الأميركي كاثلين هيكس في هذا الخصوص أن مشروع Replicator مهم جداً وضروري إذ إن الصين مقارنة بالولايات المتحدة، لديها عدد أكبر من السكان وبالتالي يمكنها تجنيد الملايين منهم، كما يمكنها تصنيع المزيد من الأسلحة، وإذا كانت أميركا تريد ردع أو صد أي غزو صيني لتايوان، فإنها تحتاج إلى أنواع جديدة من المسيرات خاصة بها ومجهزة بالذكاء الإصطناعي، وأوضحت هيكس أن فكرة Replicator ستشمل آلاف الطائرات بدون طيار من طرازات مختلفة، وأن البرنامج لن يكون سرّياً، ولن يزيد من أعباء الموازنة.
أخيراً، في لبنان الذي يواجه مخاطر داخلية وخارجية كبيرة، ألا يتساءل المراقبون لماذا لا يضع مشروعاً لتزويد قواته المسلحة بمسيرات مجهزة بالذكاء الإصطناعي؟ ومتخصصة بالرصد والمراقبة وتوجيه المدفعية وضبط الحدود البرية والبحرية؟ علماً أن كلفة هذا المشروع لن تكون كبيرة نسبة لما يمكن أن يحققه في مجالي الأمن والدفاع، مع الإشارة إلى وجود طاقات شبابية كبيرة جداً في لبنان تسمح بذلك، لأن المستقبل سيكون للمتفوقين الذين يطورون عملية صنع القرار العسكري القائم على الذكاء الاصطناعي.