أنتجت المعادلة العراقية التي فرضتها ظروف وتداعيات حراك تشرين نهاية عام 2019، بروز رفض الشارع لأي مرشح تقدمه الطبقة السياسية الحاكمة في العراق كرئيس للحكومة خلفاً لعادل عبد المهدي.
كانت قوة الرفض هي التأييد الشعبي الكبير للحراك الشبابي الناقم على الوضع بسبب تراكمات توجتها السلطة في وقتها بالاعتداء على خريجات جامعيات يطلبن فرص عمل تليق بهن!
بعد استقالة عادل عبد المهدي على خلفية خطبة المرجعية التي دعت مجلس النواب لإقالته بعد قتل مئات الشبان الذين تظاهروا في تشرين، قدمت الكتل السياسية مرشحين رفضتهم ساحات التظاهر، كان منهم رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني وكذلك محمد توفيق علاوي وعبد الحسين عبطان وآخرون، إضافة الى عدنان الزرفي الذي تم تكليفه فعلاً من رئيس الجمهورية السابق برهم صالح لكنه لم يحصل على التوافق السياسي حينها وسط سكون ثوري شعبي رضخ لهذا الاختيار نتيجة تفشي وباء كورونا وتراجع الحراك الشعبي عددياً نسبياً.
تكليف الكاظمي
بعد حين تم تكليف مصطفى الكاظمي بحضور القوى السياسية من الصف الأول (وكان هذا شراط الكاظمي نفسه مقابل قبوله بهذا المنصب) والسبب هو حصوله على الإجماع السياسي الذي يؤهله للعمل من دون عراقيل أو على الأقل تحجيم هذه العراقيل، وأولها ازالة حجة عدم المقبولية من قبل الأحزاب الكبيرة في البرلمان التي سيتردد الحديث عنها بعد حين من تشكيل حكومته .
وقد يكون قبول غالبية الطبقة السياسية مجتمعةً بالكاظمي يوم تكليفه، مبنيةً على أساس أنها رمت به في أليمِ ككبشِ فداء ليتحمل تبعات فشل الطبقة السياسية والدمار الذي وصلت إليه البلاد، وفي حال نجاحه احتواء الغضب العام والسخط الشعبي، فإن سكاكين الأحزاب والساسة جاهزة لتجد في ظهره منفذاً للإجهاز عليه واستعادة زمام المبادرة بعد أن يرتبوا أوراقهم من أجل العودة للاستحواذ على السلطة والدولة، وهذا ما تجلى واضحاً بعد أن نجح فعلا في احتواء المشهد السياسي والصحي والاقتصادي بعد قرابة ستة أشهر أو أكثر.
بعد حصوله رسمياً على المنصب، كتب الكاظمي مقالًا شرح فيه باقتضاب أهداف حكومته والمهام المترتبة عليه كونه رئيس الوزراء، وهي محاربة جائحة فيروس كورونا، إنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي وهبوط أسعار النفط إلى ما دون الصفر دولار للبرميل الواحد، كذلك اجراء انتخابات برلمانية نزيهة لا شائبةَ عليها.
هذا ما كتبه الكاظمي في مقال التكليف الذي نُشر وقتذاك وما تعهد القيام به، لكن الذي حصل فعلاً هو أن الرجل قد زاد على ما كتبه وإن رافق عمله الكثير من السلبيات، تارةً بسبب الحاشية أو بسبب عدم القدرة فعلًا على تحمل المسؤولية وحده كونه مستقل وجاءت به الظروف الاجتماعية والسياسية ليحمل كاهل المنصب من دون أن يكون له أي ظهير حزبي يتكئ عليه، وتارةً بسبب الظروف المحيطة بجو العمل في الحكومة السابقة التي كان يواكبها القصف على المنطقة الخضراء بحجة محاربة المحتل أو تظاهرات حزبية بحجة ارتفاع سعر الصرف!
الكاظمي استلم فعلًا دولة منهارة اقتصاديا شبيهة بتلك الدولة التي استلمها العبادي من سلفه نوري المالكي، استلم الكاظمي خزينة دولة خاوية واحتياطياً مالياً لا يصل إلى 45 مليار دولار مع انهيار سعر النفط ووباء كورونا يفتك بالعراقيين ولا حل كان موجوداً لهذا الوباء سوى فرض منع التجوال وقطع أوصال المدن وتوقيف الأعمال التجارية وغيرها وهو ما يعني خسائر فادحة تتكبدها الدولة والشعب على السواء.
محاربة الانهيار المتزامن الاقتصاد وكورونا!
كان على الكاظمي وفريقه الوزاري وبالذات علي عبد الأمير علاوي وزير المالية المضي قدماً بإجراءات اقتصادية ومالية قاسية، لكنها بحسب مختصين كانت الحل الأسرع للازمة الاقتصادية وهو رفع سعر صرف الدولار من 1180 إلى 1450 دينار للدولار الواحد.
بطبيعة الحال فإن سعر صرف الدولار كان يتصاعد دون سيطرة بسبب طباعة العملة المحلية عام 2020 مع نهايات حكومة عبد المهدي من اجل تغطية الرواتب ولأسباب اخرى، ولهذا كان من الصعب الإيفاء بالتزامات الحكومة من رواتب وغيرها دون رفع قيمة الدولار، ولم يكن هذا القرار بدعة من حكومة الكاظمي أصلا، بل هو قرار اقتصادي مُتخذ في الحكومات السابقة، لكن لم تكن هناك شجاعة لاتخاذ هذا القرار ذلك لأسباب انتخابية بحتة، فـ علي العلاق محافظ البنك المركزي الحالي قال في تسريب صوتي مع الراحل أحمد الچلبي إن الحل الوحيد لإنقاذ الاقتصاد هو رفع سعر صرف الدولار!
بالتوازي مع ذلك، عمل الكاظمي على الإسراع بإنهاء أو تقليل خطر كورونا فكان العراق من الدول التي حصلت على لقاحات مضادة للفيروس وإن سبقت ذلك أعداد كبيرة من الوفيات نتيجة الوباء وعدم الالتزام بالإرشاد الصحية في ذلك الوقت وما رافق ذلك من حرائق للمستشفيات التي تحتضن المصابين بالمرض وما قيل حينها إنها كانت متعمدة من أطراف تسعى لإزاحة وزير الصحة من منصبه.
إجراء الانتخابات الأنزه ما بعد التغيير..
لا يوجد منصف لا يشهد بأن أفضل انتخابات من حيث النزاهة كانت انتخابات تشرين عام 2021، والتي أعطت الأحجام الحقيقية للقوى السياسية واستحقاقاتها لدى الشارع العراقي، وإن تم بعد حين الانقلاب على هذه النتائج عبر إدخال القضاء والجمهور الحزبي في معترك عدم قبول خسارة طرف أدمن على السلطة منذ سقوط النظام السابق!
في النتيجة، كانت حكومة الكاظمي وفية بالتزاماتها الثلاثة (كورونا والاقتصاد والانتخابات وقانونها) إضافةً إلى تعهدها بحماية المتظاهرين، وقد استطاعت ذلك فعلاً والدليل عدم وجود دماء على الأسفلت في زمن الكاظمي عكس ما كان يحدث التظاهرات قبل استلامه السلطة، بل حدثت حوادث اغتيالات غدر كما جرى مع الخبير الامني هشام الهاشمي وغيره.
زاد الكاظمي على ذلك بنجاحه الكبير في الملف الخارجي مع دول الخليج والمجتمع الدولي بشكل عام وتوج ذلك بمؤتمر دولي في العراق ما كان ليحدث لولا علاقاته الدولية ولا نعتقد بحدوث شبيه بهكذا مؤتمر لاحقاً ولا حتى أن تعاد زيارة مثل زيارة البابا التي حصلت في عهد حكومته وسط غياب العقليّة الدبلوماسية والسياسية الحقيقية في هذا الوقت والتي عجزت لغاية اللحظة عن الوصول إلى أسوار البيت الابيض بعد قرابة سنتين من عمر الحكومة الحالية!
كذلك قام الكاظمي منفرداً بمحاولة محاربة الفساد، عندما قبض على عدد من حيتان الفساد وأعاد منهم مليارات الدولارات وأودعهم السجن بعد أحكام قضائية، اضافةً لإلقاء القبض على عدد ممن تورطوا بحوادث الاغتيالات ومنهم قتلة الصحفي أحمد عبد الصمد ورفيقه المصور وكذلك قاتل هشام الهاشمي وقتلة الدكتورة ريهام و زوجها في البصرة وقاتل ثائر الطيب، وجميع هؤلاء المغدورين من أبناء حراك تشرين .
كانت القوى السياسية تريد من الكاظمي كسب الوقت ريثما تعيد ترتيب أوراقها المبعثرة وهو كان يعمل على تصفير الأزمات قدر المستطاع رغم السلبيات المرافقة لعمله، كانت القوى الشبابية والشعبية المدنية بخاصة، تريد منه حسم الموقف بالكامل لصالح الشارع الثائر وقلب النظام أو قلب المعادلة مثل ما فعل عبد الفتاح السيسي في مصر وهذا الأمر محض خيال كبير وشاعرية ثورية لا وجود لها على الاقل في عقلية مصطفى الكاظمي الذي يؤمن بمنهجية التغيير عبر صندوق الاقتراع فقط وعبر مؤسسات الدولة الرصينة وليس عبر الانقلابات العسكرية أو الانقلاب على العهود والمواثيق، ولهذا التزم بوعده للكتل السياسية بعدم الترشح لانتخابات يشرف عليها.
وبالعودة إلى ما كان يتأمله الشارع الغاصب من الكاظمي، هذا الشارع الذي كان بعضه يتصور أن الرجل يحمل مقصلة بيده ينهي بها الأحزاب، تفكير سطحي لا أساس له، كيف تأتي الأحزاب بشخص ينهيها بهذه البساطة؟
الكاظمي أراد ترتيب أوضاع العملية السياسية وليس إراقة الدماء، الدم بنظر الكاظمي يورث الدم وحتى الخاطئ بسلوكه في العراق في نظره ضحية سنوات طويلة من العسكرة والظلم والدماء كما قال الكاظمي لأحدهم ذات يوم !