عنونت إحدى الصحف اللبنانيّة التي تدور رحاها في حقل "حزب الله" نقلًا عن أمينها العام بأنّ معركة إنهاء إسرائيل قد بدأت. وذلك كان في 15 شباط 2008. هذا الخطاب لا يعدو كونه حلقة من سلسلة سرديّات الفريق الممانِع – المفاوِض للعدوّ الاسرائيلي. هذا الفريق الذي ما فتئ إظهار ذاته بأنّه " المدرك طريقه والواثق من نفسه" بات اليوم بحالة ضياع كبير نتيجة عدم التزامه بوعوده لجمهوره، وإرضاء لمشغّليه إيديولوجيًّا وثورويًّا واستعماريًّا.
مقابل ذلك، تبدو المعارضة اللبنانيّة التي دأبت على مواجهة هذا الفريق الذي سيطر على الدّولة اللبنانيّة بعد دخولها مرحلة الجمهوريّة الثانية، أي بعد اتّفاق الطائف، تبدو هذه المعارضة اليوم أكثر رسوخًا وثياتًا في مواقفها ومبادئها بعد التضعضع الذي شهدته نتيجة مواجهتها بالدم والقتل منذ محاولة اغتيال الوزير السابق مروان حمادة حتّى اغتيال الناشط في القوات اللبنانية الياس الحصروني، وما بين هاتين العمليّتين من جرائم أثبتت المحكمة الدّوليّة ضلوع "حزب الله" عبر أحد أبرز عناصرها بهذه العمليّات. ولكن بسبب انتفاء التصنيف المهامي لهذه المحكمة فهي اكتفت بإدانة أشخاص وليس منظّمة، لكنّ هذه الخيرة طوّبتهم قديسين وعملت على تصفيتهم في ساحات الوغى لتنجح بإخفاء الأدلّة.
وما استمرار هذا الفريق بالعمل السياسي إلا اقتناعًا منه بأنّ السياسة وحدها تستطيع أن تؤمّن ديمومة نهجه الفكري. وهو مدرك تمامًا أنّ الاستمرار بالعسكرة إلى ما لا نهاية هو أمر مستحيل ونهايته قريبة. وما عمليّة الغسل الايديولوجي التي نجح بتطبيقها على جزء كبير من المكوّن الحضاري الذي يدين له بالولاء إلا عمليّة ساقطة بفعل منطق البشر والعقل والوجود.
يكفي هنا أن نعود إلى كتابات جون لوك (1632-1704) أحد أكثر الفلاسفة السياسيين تأثيرًا في العصر الحديث، ولاسيّما كتابه “رسالتان في الحكم المدني”، حيث دافع لوك عن فكرة أن البشر بطبيعتهم أحرار ومتساوون، معارضًا الادّعاء بأن الربّ جعل جميع البشر خاضعين للملك طبيعيًّا. أكد لوك أن الناس لديهم حقوقٌ مثل الحق في الحياة والحرية والملكية، وأن هذه الحقوق مستقلة عن قوانين أي مجتمع معين.
فهذه النّظريّة وحدها كفيلة بإسقاط هذه اللوثة الايديولوجيّة عن مجتمع بكامله. وذلك لأنّ الحرّيّة هي مبدأ الوجود الانساني لأنّ الرّبّ هو الذي خلقنا أحرارًا، وهذا الحقّ هو مستقلّ عن سائر الحقوق. وهذا ما بدأ جزء كبير من هذا المكوّن الاجتماعي بالاقتناع به. ولعلّ ظاهرة "السحسوح" التي تفشّت بعد ثورة 17 تشرين 2019 كفيلة بتثبيت ذلك. واليوم بعد إعلان "حزب الله" توريط مكوّنه الحضاري أوّلًا واللبنانيّين كلّهم بالحرب التي تدور في الإقليم، ارتفعت مجدّدًا هذه الصرخات.
فما من عاقل يقبل بوجود لبنانين: لبنان يتهجّر ويتدمّر وتسفك دماء مواطنيه، وتزهق على ذبذبات هواتفهم الخليويّة حياتهم. ولبنان آخر يبني ويحمي الجمهوريّة القويّة، ويعمل ليل نهار بالأطر السياسيّة الفضلى ليؤمّن الأفضل لشعبه، فيعيش أبناؤه بكلّ كرامة، برغم الأزمات التي تسبب مها مدّعو الممانعة ومقاومة العدوّ الاسرائيلي.
وتجدر الاشارة إلى أنّ لوك قد استخدم هذا الاعتقاد لتبرير "فهمه للحكومة السياسيّة الشرعية، حيث ينبغي للناس نقل بعض حقوقهم بشكل مشروط إلى الحكومة من أجل ضمان التمتع بحياتهم وحريتهم وممتلكاتهم باستقرار وراحة." وهذا المبدأ عملت الممانعة على إرسائه نهجًا للسيطرة على الدّولة العميقة في لبنان عبر حكومات تسيطر عليها، إن لم يكن بالسياسة فبالحديد والنّار.
والوضوح السياسي الذي تنتهجه المعارضة اللبنانيّة في أدائها السياسي هو الذي يقلق الممانعة؛ وذلك لأنّها استطاعت بالنّمذجة التأثير بكلّ اللبنانيّين. وما عمليّة التخدير الإيديولوجي التي نجحت الممانعة بتطبيقها على جزء من مكوّنها إلّا عمليّة ساقطة وبشكل حتميٍّ، لأنّ ما يُرى هو أوضح بكثير ممَا لا يُرى. "وبما أن الحكومات تتواجد بدعم من الشعوب من أجل حماية حقوقهم وتعزيز المصلحة العامة، فيمكن أن تقاوم الحكومات التي تفشل في القيام بذلك وتستبدل بحكومات جديدة." انتهى الاقتباس من فكر جون لوك.
لذلك كلّه، المعارضة اليوم مدعوّة لترجمة هذا الوضوح والابتعاد عن المصطلحيّة الديبلوماسيّة التي انحدرت إلى مستوى التقيّة السياسيّة عند الممانعة. وهذا الوضوح الرؤيويّ لن يصرَف بالسياسة إلّا إذا نجحت المعارضة اللبنانيّة عبر اتّحادها بالتأثير في الخماسيّة حتّى تسمّي المعرقلين وتفرض ما تصرّح به من عقوبات قاسية عليهم.
لذلك كلّه، المطلوب اليوم من المعارضة اللبنانيّة رؤية توحيديّة جديدة، تنطلق من مبادرة الاعتدال وثبات الأفرقاء السياسيّين كلّهم بمواقفهم، وربّما الاستفادة من تهديدات الفريق المسيحي الممانِع بالاستدارة السياسيّة، لعقد مؤتمر سياديّ بامتياز، يعلن فيه هذا الفريق المسيحي بالذات تخلّيه عن فكرة الاحتفاظ بالسلاح غير الشرعي تحت أيّ ذريعة كانت، ليدخل بعدها شريكًا أساسيًّا في صلب هذه المعارضة فتتحوّل بذلك إلى أكثريّة.
عندها فقط، تنجح هذه القوى بفرض إيقاع سياسيٍّ جديد يقوم على بلورة المفهوم المؤسّساتي، من خلال إعادة الضوء وتسليطه من جديد على جوهر الأزمة اللبنانيّة القائم على الشراكة في السيادة مع الدّولة. وهذا وحده كفيل باستعادة السيادة اللبنانيّة بالكامل على كلّ شبر من أراضي الدّولة اللبنانيّة. لكنّ الواقع يكشف غير هذه الحقيقة المرجوّة، وهو تمسّك "حزب الله" بسلاحه غير الشرعي، وبتصرّفها مع الدّول إن كان الولايات المتّحدة الأميركيّة في 27 تشرين الاوّل 2022 في اتّفاق السلام الصامت الذي وقّعته مع العدوّ الاسرائيلي في الناقورة وقتذاك، وإن كان دولة الامارات العربيّة في اليومين المنصرمين كمفاوض استراتيجي يقود السياسة الخارجيّة لهذه الدّولة.
أمام هذا الواقع، لا تبدو دعوة "حزب الله" بالعودة إلى الدّولة دعوة واقعيّة بل هي غدت ضربًا من ضروب الشعوذة الوطنيّة. وأمام هذه الضبابيّة في الأداء السياسي والعسكري في الميدان الذي يعرّي "حزب الله" وحلفائه أكثر فأكثر، ووضوح المعارضة في خطابها الاستراتيجي يومًا بعد يوم لا بدّ للقيد أن ينكسر ولهذا الليل الدّامس بأن ينجلي. ومن يصبر إلى المنتهى... يخلص.