الحرب الدائرة في غزّة تحولت من رد إسرائيلي على عملية طوفان الأقصى إلى حرب إنتقامية منذ أسابيعها الأولى، وهي تأكيد على إحباط طموحات الشعب الفلسطيني بالحصول على دولة تجسد هويته الوطنية، وعلى رفض إسرائيل مجرد البحث بهذا الموضوع. حركة حماس سيطرت على غزة منذ ما يقارب الخمسة عشرة عاماً لعدة أسباب منها إضعاف السلطة الفلسطينية الناتج عن تقويض جهود السلام العادل والدائم من قبل إسرائيل.
ولكن لحرب غزّة بعدها الإيراني، فإيران هي الداعم الأساسي بالسلاح والتقنيات القتالية والتدريب لحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني وغيرهما من التنظيمات الفلسطينية، وهذا الدعم لا يتعلق فقط بنصرة القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل والغرب، إنما بنزعة إيران الإمبراطورية التي لها جذور تاريخية، جـُسـّدت في العام 1967 عندما قام الشاه محمد رضا بهلوي بتتويج نفسه شاهنشاه، أي ملك الملوك، وتتويج زوجته فرح ديبا بهلوي شاهبنو، أي إمبراطورة وفي نفسه الوقت وصيـّة لولي العهد في حال لم يبلغ سن الرشد إذا توفي الشاه. هذه النزعة الإمبراطورية لم تغب يوماً عن ثقافة النخب الإيرانية ولا عن حكام إيران الذين يدرسون تاريخ أباطرتهم مثل داريوس وارتحششتا اللذان مددا إمبراطوريتهم حتى شرقي المتوسط وآسيا الصغرى واليونان.
هذه الثقافة والطموحات الإمبريالية مستمرتان اليوم تحت نظام ولاية الفقيه الذي أوجب بوضوح في الدستور الإيراني على نشر الثورة الإسلامية في العالم ولا سيما في الشرق الأوسط. اليوم تجهد إيران لإظهار عدم تورطها في حروب غزّة وجنوب لبنان والضفة الغربية والبحر الأحمر والعراق وسوريا، وهي حروب جارية على مساحات إمبراطوريتها غير المعلنة، ولكن ألم يعلن المسؤولون الإيرانيون أنهم يسيطرون على بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء؟ فكيف يمكن التصور أن طهران لا علاقة لها بما يجري؟
إدارة الرئيس بايدن، تجهد هي الأخرى لإبعاد إيران عن دائرة الضوء في عملية طوفان الأقصى والحروب الجارية في المنطقة، لعدم رغبتها في مواجهة طهران، ولتفادي مواجهة بين هذه الأخيرة وإسرائيل، والأسباب إستراتيجية تتعلق بجيوسياسة التوازنات بين القوى الإقليمية في المنطقة كون إيران جزء اساسي من هذه التوازنات.
منذ سقوط جدار برلين وانتهاء الإتحاد السوفياتي، خاضت الولايات المتحدة سلسلة حروب متواصلة في العالم وفي الشرق الأوسط بما في ذلك الحرب على تنظيم القاعدة منذ 11 أيلول 2001 وتنظيم داعش منذ العام 2013 والتنظيمات الرديفة لهما، وفي نهاية عهد الرئيس جورج دبليو بوش وبداية عهد الرئيس باراك أوباما برز تطوران استراتيجيان جعلا الولايات المتحدة تعيد النظر في سياساتها الكبرى، الأول هو صعود قوّتي الصين وروسيا العسكريتين، بينما واشنطن منشغلة بمحاربة الإرهاب في العراق وسوريا، والثاني انتفاء حاجة الولايات المتحدة لنفط وغاز الشرق الأوسط بعدما أصبحت أميركا بلد مصدّر لهما. نتيجة لذلك إتجهت واشنطن شرقاً وغرباً لاحتواء كل من الصين وروسيا وخففت إهتماماتها بالمنطقة دون أن تتخلى عنها، وراحت تفقد قدرتها على الردع شيئاً فشيئاً، ولم تتخذ إجرآت عسكرية مباشرة ضد إيران التي لم تتوقف عن إتباع سياسة عدائية تجاهها وتجاه الدول العربية طيلة عقود عن طريق دعم التنظيمات المسلحة الشيعية شاعرة أن الساحة تخلو لصالحها، وكذلك دفعت طهران هذه التنظيمات لشن هجمات ضد القوات الأميركية في المنطقة.
تصاعدت هذه الهجمات كثيراً في الآونة الأخيرة وبلغت منذ حرب غزّة أكثر من 150 هجوماً على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، وهجوم على منشأة أمريكية في الأردن بطائرة مسيرة في 28 كانون الثاني الماضي أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة عشرات آخرين. هذه الضربات لم تبقى دون ردود انتقامية أميركية أنذرت بإضعاف وربما تدمير قدرات الحشد الشعبي العراقي حليف طهران، مما دفع قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في بدايات الشهر الماضي إلى الطلب من حلفائه العراقيين وقف هجماتهم على القواعد العسكرية الأميركية في سوريا والعراق والتي توقفت بالفعل، ولكن هناك مؤشرات أنها ستسمر قريباً. أما في البحر الأحمر فهجمات ميليشيات الحوثي مستمرة ضد السفن التجارية وضد القطع البحرية الأميركية منذ أكثر من شهرين. في هذا السياق قال الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة الوسطى الأمريكية السابق، لموقع Breaking Defense في بداية شباط الماضي "أعتقد أن المشكلة في هذه الضربات في العراق وسوريا والبحر الأحمر، هي أننا فشلنا في محاسبة إيران بشكل مباشر"، وأضاف: "نحن بحاجة إلى الرد على الجماعات التي ترتكب هذه الهجمات، لكن علينا أيضًا أن ندرك أن إيران تقف ورائها كلها، ويجب علينا استخدام جميع أشكال القوة الوطنية لمحاسبتهم". ومن وجهة نظر فوتيل وخبراء آخرين، يجب أن يكون هناك ردع أقوى لإيران لكي توقف أعمال العنف التي يقوم بها حلفائها. وأكمل أن الضغط العسكري السابق أثناء حرب التحالف الدولي ضد الإرهاب، والإجرآت الدبلوماسية والإعلامية والعقوبات الإقتصادية جلبت الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات بخصوص برنامجهم النووي، ورأى فوتيل أن المشاكل بدأت عندما قررت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما التركيز على التحديات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ ولم تولي اهتماما كافيا للحفاظ على مستوى كاف من الردع ضد السلوك الإيراني، مركزةً فقط على التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي والرضوخ لرفض إيران التفاوض بشأن التهديدات المتزايدة التي تمثلها الجماعات الحليفة لها في المنطقة، وبرنامجيها الصاروخي وللطائرات بدون طيار، إلى أن أصبح هؤلاء الحلفاء وصواريخهم ومسيراتهم الوسائل الأساسية لتصدير أيديولوجية ولاية الفقيه الثورية، وبمعنى آخر نشر الإمبراطورية وها هم اليوم أكثر جرأة من أي يوم مضى في هجماتهم ضد المصالح والقوات الإميركية، وإذا استمر الوضع على هذا النمط، ستصبح إيران قادرة على فرض إرادتها على المجتمع الدولي، خاصة وأن قادة الحرس الثوري يدركون تماماً أن الولايات المتحدة وحلفائها لا يريدون الانجرار إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، ويعتبر الإيرانيون ذلك مؤشر ضعف. في هذه الأجواء، يصعب إستعادة قدرة الردع الأميركي لمجرد إقتناع طهران أن واشنطن والغرب لا يريدون التصعيد، حتى ولو نشروا أساطيل وقوّة نارية هائلة طالما لا إرادة للردع الفعال، ... والإمبراطورية الفارسية ستواصل إنتشارها في القرن الواحد والعشرين كما انتشرت في القرن السابع ق.م. حيث حاربت الهللينيين الأثينيين والإسبرطيين بواسطة وكلائها من هللينيين آخرين وفينيقيي صور الذين بنوا الأسطول البحري الفارسي، والمصريين الذين فعلوا الأمر نفسه، ... التاريخ يعيد نفسه للذين لا يطلعون على التاريخ. إن وقف تمدد الإمبراطورية الفارسية يتطلب إجرأت تنفيذية تسد الثغرة الأساسية للردع الأميركي تجاه إيران، ألا وهي الفشل في جعل الجمهورية الإسلامية تدفع أثمان مادية ومعنوية ودبلوماسية بسبب استراتيجيتها التوسعية الإقليمية بالوكالة، دون أن يؤدي ذلك إلى صراع إقليمي.