تَشَكُّل نِظامٍ جديد يلوح في الأفق. ليس في هذا الاستنتاج انكِفاءٌ عن فَهْمِ طبيعة التحوّلات الرّاديكاليّة من ناحيَة، ولا إدّعاء استِجلاء ما ستُنتِجُه هذه الأخيرة من ناحيَةٍ أخرى، بل إنَّ هذا الاستِنتاج قائِمٌ في أنّ توازُنًا مستجدًّا باتَ يَضَع الخريطة العالميّة في مسارِ البَحْث عن إعادة الانتِظام، ضمن نِظام قِيَمٍ ومصالِح مشتركة، تُشكّل فيه العَدَالةُ بُنيَة مؤسِّسَة.
في هذا السّياق التّفكيكيّ لكلّ شعبويّة البروباغندا التي تعتمد أساطيرَ في تعميم الانتِصارات، أو تسييد الهزائِم، من المُلّح الانكِباب بجديّة على مُقاربة نماذج في هذه الشّعبويّة، إذ هي تنحازُ إلى تجويف السّياسات العامّة والانقِضاض على الحَوْكَمَة الرّشيدة، حتَّى إنّ البراغماتيّة في عُرْفِها مركنتيليّة قادِرة على البيعِ والشّراء في سُوْقِ التّناقُضات. النّماذِجُ التي نودّ العَوْدَة إليها تقُوم في ثلاثة عناوين. الدّولة في مواجهة اللّادولة. المسبّبات في مواجهةِ العَوارِض. الحِوار في مواجهة الحِقْد.
- الدّولة في مواجهة اللّادولة
لا تستقيم دَوْلَة في ظِلِّ إشراكٍ، مُباشر أو غير مُباشر، في السّيادة. السّيادة النّاجزَة فِعْلٌ يَستظِلّ بشرعيَّة الدّستور ومؤسَّساتها. لَصْقُ مؤسَّسات الدّولة بأشكالٍ من اللّادَوْلَة، أو اجتياحها باسْم الدّفاع عنها، أو المُساهَمَة في استِنهاضِها، هذا اللّصقُ والاجتياح ينجليَان مزيجًا من الاستِقواء والتّرغيب. هكذا تظهَّرت بُنى دَوْليشاويَّة بعقائديّاتٍ مُغْلَقَة إنّما مفتوحَة على أحلاف زبائنيَّة. الإنتِصار في مخيّلة الدّوليشاويَّة ميتافيزيقيّ، والهزيمة في قاموسها إبحارٌ في التفوّق، أو قُلْ انتِصارٌ مُضاعَف. الدّولة في مواجهة اللّادَوْلَة تحدٍّ أوّل لسرديّة البروباغندا. - المسبّبات في مواجهة العَوارِض
لا تستقيم حَوْكَمة رشيدة دون مُجاوَرَة مسبِّبات الأزَمات. الإكتِفاءُ بتشخيص هذه الأخيرة، أو البَحْثُ في عوارِضِها حصرًا يُلامس المُراهَقَة في أداءِ السّياسة حينًا، والخُبْث في التَّعميَة على الحقائِق أحيانًا أُخْرَى. النّموذج الفاقِعُ في هذا الإطار يَظْهَر في توسّل مُعالجة قضايا الهجرة واللّجوء والنّزوح من بوّابة سياساتِ الهُويّة، والاستِنفارات الغرائزيّة، حتّى إنّ ثمَّة من يتجاهل الأبْعاد البنيويّة لما تفرِزُهُ هذه القضايا المعقَّدة في تأبيد التوتّرات. المسبّبات في مواجهة العَوارض تحدٍّ ثانٍ لسرديَّة البروباغندا.
- الحِوار في مواجهة الحِقْد
لا تستقيم إدارة التنوّع دون الاتّساق بمنهجيّة الحِوار. الحِوار يعني فهمًا للثَّوابِت البنّاءَة، وقُدْرَةً على المُحاجَجَة العلميَّة بمنطِق البَحْث عن المشتركات، لكنْ دون التّموضع في حيّز الانصِياع أو الخُضوع بالاستِناد إلى خَلَل في موازين القِوى. المبدئيَّة وحدها تبني حوار المحبَّة الصّادِق، أمّا التّلاعُب بالحقيقة فشأنُه قابِعٌ في نفوسِ مستلزمي النّفوذ وتُبَّاع المصالِح. الحِقْد في خلفيَّة هؤلاء جزءٌ من تربيةٍ موبوءَة. الحِوار في مواجهة الحقد تحدٍّ ثالِث لسرديَّة البروباغندا.
في كلّ ما سَبَق من تحدّيات، لا بُدَّ من الاعتِراف العميق بمُوجبات أنْسَنَة الفِعْل السّياسيّ. ثمّ إنَّ أيّ أنْسَنَةٍ بهَدَف المراوغَة، أو المُناورة، أو المُهادنة، بعيدًا عن سموِّ صَوْن كرامة الإنسان وبِناء السّلام بالعَدْل، وهذه الأنسَنَة تبقى رَهْن انتِماءٍ إلى ثقافةٍ شيطانيّة ملتوية تُحارِب الخير العامّ. كم من شعبويَّات بروباغندا ما زالت تستهوي صُنَّاع القرار، وتستَقْطِب نُخبًا حتَّى. اللّحظة تاريخيَّة ويُقْتَضَى تلقّفها لإنهاء هذه الظواهِر المرَضيَّة. ما نحتاجُه قيادة حكيمة وصُلْبَة ورؤيويَّة، والأهمّ أخلاقيَّة.