يجهد الممانعون يومًا بعد يوم لإظهار انكسارهم الميداني انتصارًا. ولا يجدون سبيلًا لذلك إلّا في السياسة التي ما اقتنعوا يومًا بأسس ممارستها لعبة ديمقراطيّة حرّة ونزيهةً. حتّى وقعت حرب غزّة، هذه الحرب التي إن دخلها الشعب الفلسطيني من دون أن يتمّ توظيف مقاومته إيديولوجيًّا وتوسّعيًّا ومفاوضاتيًّا، لكانت هي الحرب الأخيرة على العدوّ الاسرائيلي التي ستحقّق حتمًا دولة فلسطينيّة لطالما ناضل هذا الشعب للوصول إليها، وما وصل.
لكنّ الاشكاليّة الكبرى في ما حصل أنّ هذا النّضال المقاوماتي الذي بلغ عقده الثامن تمّ استغلاله والاستثمار به ليصبح أثمن الأضاحي التي قد تقدّم على مذبح المفاوضات الدوليّة، لتحقيق مصالح ضيّقة، لا تمتّ بأيّ صلة إلى هذه القضيّة الانسانيّة التي ما بلغت قضيّة سماوتها من حيث التضحيات التي بذلت لأجلها.
ولم يعد ينفع اليوم الاستثمار بالاستئثار في هذه القضيّة وجعلها مادّة للاستمرار على الاستقرار في ميدان الدّول الفاعلة والمؤثّرة في المنطقة. من أبرز ما بدأ يصرّح به من قبل بعض الذين يشهَدُ بانتمائهم إلى محور الممانعة هو الانتهاء من القضيّة الفلسطينيّة بعدما تمّ الاجهاز على غزّة. ولن يتمكّن الممانعون من الاستثمار إعلاميًّا أكثر في زيارة مسؤول "حزب الله" الأمني إلى الامارات ومحاولة تظهيره المفاوِض الشرس للانقضاض على غنيمة الجمهوريّة اللبنانيّة.
فسرعان ما رشحت التسريبات التي على ما يبدو أنّها ستتثبّت أكثر فأكثر في القادم من الأيّام، بأنّ المفاوضات هي فقط من أجل استعطاء نعمة البقاء. لكنّ هؤلاء كلّهم ما اعتادوا على الحياة في كنف دولة تؤمّن الرفاه لبنيها كتلك التي يقصدونها لإبرام صفقاتهم، بل جلّ همّهم تحويل هذه الدّول التي استوطنوا فيها عبر التّاريخ منذ زمن القرامطة وحمدان الأشعث وأبو سعيد الجنابي إلى ولايات يحكمونها بغسل الأدمغة إيديولوجيًّا.
هؤلاء هم أنفسهم الذين عملوا في نهاية القرن التاسع الميلادي (899 م) على تأسيس دويلتهم داخل الدولة العباسيّة لهدمها من الدّاخل معتمدين على نظريّة الإمامة الإلهيّة، وشراء ذمم بعض الولاة العرب، مستذكرين أمجاد الأمبراطوريّة الساسانيّة التي امتدّت حتّى بدايات ظهور الاسلام في العراق وقتذاك (قرابة سنة 637 م) عندما تمّ إسقاطها بالضربة القاضية.
فما طرحته هذه المنظّمة بعد حرب تمّوز في العام 2006، لم يعد مقبولًا هو نفسه. فهذه التجربة بُنِيَت بعد استخلاص عبر الاتّفاق السرّي الذي أبرمته المخابرات الألمانيّة وقتذاك، برعاية أميركيّة- سوريّة ونتج عنه الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب اللبناني مقابل ضمان أمن الأرض المحتلّة ليأمن هذا العدّو ويستوطن ويستثمر بها. فكان له ما أراد طيلة سنوات ستّ. وما حدث في تمّوز من العام 2006 تمّ تثميره بقرار دوليّ التفّت هذه المنظّمة مجدّدًا على تطبيقه، مقابل أن تبقى شريكًا مفاوضًا باسم وليّها الفقيه.
بالتوازي، تمّ تسليم النّهج نفسه الحكم في غزّة، بعدما استغلّت المخابرات الاسرائيليّة حنق الشعب الفلسطيني على سلطته، ومنح يومذاك ثقته لحركة حماس التي تحوّلت إلى مُستثمَرٍ به من قبل النّهج الثوروي التوسّعي الممانِع نفسه. هكذا وضع المجتمع الدّولي يده بيد هذا النّهج ظنًّا منه باستيعابه سياسيًّا قد يستطيع إغراءه بغنائم صفقاته على حساب حقوق الشّعوب في المنطقة وأوّلها الشعب الفلسطيني.
لكن بعد 7 أكتوبر وما قامت به حركة حماس بهدف ضرب ما كان محتملا التوصّل إليه من انتزاع اعتراف إسرائيلي بوجود دولة فلسطينيّة، ما يعني ذلك سقوط الذريعة الايرانيّة – الساسانيّة – القرمطيّة لقضم الدوّل العربيّة من الدّاخل. أعلنت حب 8 أكتوبر من جنوب لبنان تحت الذرائع والحجج التي ما عادت تنطلي حتّى على الجمهور الممانِع. وذلك لأنّ النّصر الإلهي الذي أعلن في تمّوز 2006 تحوّل بفعل سياسات المهادنة التي اتّبعتها هذه المنظّمة، وبعدما فقدت عامل المباغتة في الاستنزاف، وبعد هول الدّمار الذي ألحق في بيئة الجنوب اللبناني، وبعد اغتيال العدد الكبير من كوادرها الذي ناهز الثلاثمئة كادر تقريبًا، لم يعد بالامكان إعلان النّصر نفسه الذي تحوّل إلى غضب إلهيّ، وما عاد ينفعهم سوى الرّجوع.
وما كان مقبولًا على حساب الدّولة اللبنانيّة بنظر المجتمع الدّولي لقاء تأمين مصالحه المربوطة بمصالح العدوّ الاسرائيلي لم يعد كذلك اليوم. ولم يعد البحث مقتصرًا على الانسحاب حتى شمال الليطاني لأنّ هذه المسألة بالنسبة إلى الجميع تنطبق عليها القاعدة الفرنسيّة : "déjà vu" بل المطلوب اليوم بات أبعد بكثير من مجرّد انسحاب عسكري لأنّ العسكرة أثبتت فشلها، والبحث اليوم سيكون في الاستثمار السياسي الجديد.
الانكسار هو انكسار ولا يمكن أن يتحوّل انتصارًا ولو ألصقت به صفات الألوهة كلّها. فهل ستستطيع القوى اللبنانيّة غير الممانِعَة التّعالي عن كلّ اختلافاتها الفكريّة الثورويّة النهضويّة من جهة، وخلافاتها السياسيّة من جهة أخرى، عسى أن تحقّق ما فشلت بتحقيقه في ثورتي 14 آذار و 17 تشرين؟