مُعايشة الديناميَّة الغربيَّة في مُقاربة تحدّيات الشأن العامّ على المستويات الوطنيَّة من ناحِيَة، وفي حيّز السّياسات الخارجيَّة من ناحيَة أُخرى، يؤشّر إلى كثيرٍ من ضبابيَّة في ما سيُسفِر عَنه تصاعد موجات اليمين المتطرّف في الانتِخابات الأوروبيَّة المُقبِلة، كما الاندفاعة الترامبيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة.
لَيْسَت هذه الضّبابيّة بأيّ شَكْلٍ من الأشكال إنحيازًا لسرديَّة أنَّ هذه الدّيناميّة تؤكّد على لاصوابيَّة المسار الذي انتهجه الغَرْب في السّياقات التي انكبّ على بَلْوَرَتِها، خصوصًا في ما يُعْنى بسُلَّمِ قِيَمِ الحريَّة والعدالة وحقوق الإنسان، بل هي تنساقُ لموجبات النَّقد العميق لسلوكيَّات الاستبلشمنت القِياديّ التّقليديّة في تعميق الفَجْوَة بين هذه القِيَم النّبيلة وترجمتها العملانيّة في الأداء السّياسيّ. الفَجْوَة هذه باتت تُنْذِر بانعِدام وزنٍ غير مسبوق، ما يستدعي من الكُتَل اللّيبراليّة تحرُّكًا مُمَنْهَجًا، يستند إلى رؤيةٍ متماسكة في ما يجب العَوْدَة إليه من جُذورِ وَصْلٍ حضاريّ، أكثر منه انجِرافًا في أيّ انعِطافة كولونياليّة متجدّدة، بمعنى الحُكْم الوطنيّ من جهة، كما بمعنى التوجّه نحو حلفاء وشركاء تاريخيّين أو جُدد من جهة أخرى.
مَفَادُ ما سَبَق أنّ اليمين المتطرّف، وعلى وجه الخُصوص ذاك الأوروبيّ، أمسى حتَّى في الوجدان الشعبيّ، وعلى الرّغم من شعبويَّته القادرة على تشييد عماراتٍ فكريَّة جذّابة، أمسى وكأنَّه خَشَبة خَلاصٍ في تبنّيه سياسات عامَّة هوياتيّة تنحو باتّجاه التمترُس في المربَّعات الوطنيَّة الضيِّقة، مع إعادة استِحضار الدّين كعُنْصرٍ إستقطابيّ عصبيّ، أكثر منه كبُعْدٍ قيميّ مؤسّس في المواطنة المحتضِنة للتنوّع. علمانيّة الغَرْب تخضَع لضرباتٍ بنيويّة من كلّ الاتّجاهات. العلمانيّة الأصيلة، بعُمق المواطنة التي فيها، تحت سقف الدّستور والقانون.
الأَخْطَر من ذلك أنّ السياسات الهوياتيّة ببُعدَيها الوطنيّ-القوميّ أو الدّينيّ-الطّائفيّ قد تُفرِزُ ثقافة عَزْلٍ وانعِزال في صميمِ المجتمعات الغربيَّة، وما بين الشّمال والجنوب أيضًا، ما يُناقض المرامي السّامِيَة التي حملتها "وثيقة الأُخوّة الإنسانيّة من أجل السَّلام العالميّ والعيش المشترك" (04/02/2019)، وشكَّلت حينها خرقًا مفاهيميًّا مفصليًّا في مواجهة التطرُّف أيًّا كانت منطلقاتُه وأنماطُه وتمظهراتُه.
في أيّ حال وفي السِّياقِ عينِه، يتبدَّى جليًّا الغيابُ الكامِلُ لليَسَارِ بكُلِّ تشكُّلاتِه عن هذا المَشهَد القاتِم. الحديثُ هنا قائمٌ عن يسارِ الفِعْلِ السِّياسيّ في الحريَّة والعدالة، بمنأى عن ذاكَ الـذي صادرتْهُ أنظِمَةٌ ديكتاتوريَّة، أيديولوجيّة، وعسكريتاريّة، وثيوقراطيّة. هذا الغيابُ لليسار حتَّى على مستوى النُّخَبِ مأزقيّ. اليسارُ المتنوُّر مع اليمينِ المتنوِّر يصنَعَانِ عالمًّا متوازِنًا. بَلورة فلسفة متنوّرة للسّياسة تتطلّب يمينًا ويسارًا، ولو بغير نكهة عن تِلك التي عرفها العالم في العقود الأربعة الأخيرة.
الصورة اللاَّمتوازنة التي تتحكّم بخريطَةُ الصِّراعات العالميَّة، تَفتَحُ الأُفُق رغم قتامتِها، على بحثٍ دقيق في ما تحتاجُه المجتمعات التعدُّديَّة من حَوكَمَةٍ سليمة عادِلة أساسُها حقوق الإنسان من جهة، وكيف يُمكن أن تسهِلُّ مسارًا ترميميًّا لدَورٍ أكثر فاعليَّة للأُمم المتَّحدة من جهةٍ أخرى. هذا يتطلَّبُ قِيام تكتُّلاتٍ تستنِدُ إلى الحدِّ الأدنى من ديونتولوجيا السِّياسة، وإلَّا يتحوَّل الغَربُ راعيًا للأزمات أكثر مِنهُ ملتزِمًا دورَهُ الحضاريّ. أمَّا لبعض الشَّرق فحديثٌ آخر، إذ إنَّ هذا البعض قابعٌ في كثير من انفعاليّته الوجدانيَّة، ما يَجْعَل من مَتْحَف التّاريخ فيه البوتَقَة الأوْسَع شلَلًا لكُلّ ديناميَّاتِ التّغيير.