د. محمد نعناع
في بلد مثل العراق تتزاحم الاستحقاقات التي تترتب على مؤسسات الدولة تقديمها، وفي أكثر الآحايين تفتقد تلك المؤسسات إلى تقديم الأهم على المهم، أو تنفيذ الأولويات قبل الثانويات والفرعيات والروتينيات، وأسباب هذا التخلف السياسي والإداري معلومة للخبراء على نحو التفصيل، وايضاً معروفة لجزء كبير من العامة على نحو العموم، وهي ليست محل التبيين في هذه المقالة، لذلك سنقول فقط ان الاسباب تكمن في معادلة السلطة المحاصصاتية الفاشلة، وهي التي أنتجت الفساد والتدخلات الخارجية وغيرها من معوقات الانتقال الحقيقي لدولة المؤسسات.
وكذلك في بلد مثل العراق رغم تضخم العمل السياسي إلا أن هذا العمل المبالغ به محكوم بالموارد الاقتصادية التي تديرها الحكومة، وإن انتعاش الحركة السياسية وتوابعها الاجتماعية والإعلامية متوقفة على طبيعة رؤية الحكومة الاقتصادية، وكيفية إنفاقها للمال العام وفقاً للموازنة المالية للدولة أو أي طريقة إنفاق مالي أخرى، وبمعنى أوضح وواقعي إن طريقة إنفاق المال العام في العراق سياسية قبل أن تكون اقتصادية، وكل ما سوى هذا الاعتقاد ما هو إلا شكليات للتغطية على الحقيقة السافرة والنزعة السياسية المفضوحة، والدليل على ذلك إن أغلب الخلافات السياسية في جذورها تعود إلى مشاكل اقتصادية، وقسم كبير منها يتعلق بالفساد والمحسوبية.
في هذه المقالة سنرى هل تحقق الرؤية الاقتصادية للحكومة تنمية سياسية بناءة تُفضي إلى تقديم خدمات حقيقية للمواطن العراقي؟! وهل أن الرؤية الاقتصادية تسبق عمليات التنمية السياسية أم العكس هو الصحيح؟!
من المعلوم إن الرؤية الاقتصادية تستدعي تحقيق أمرين مهمين، الأول: إيجاد خطط بعيدة المدى وغير متناقضة، وتأخذ بنظر الاعتبار التقلبات الإقليمية والدولية، وتضع في الحسبان مسألة التدرج في الانتقال في عملية الإنفاق على القطاعات التشغيلية والاستثمارية، الثاني: أن يكون هدف الرؤية الاقتصادية الموازنة بين مصلحة الدولة ومصلحة المواطن، وأن لا يتقهقر الوضع المعيشي وحركة السوق بفعل القرارات الاقتصادية، لأن بعض الأوضاع الاقتصادية والمعيشية كالوقوع في الركود والتضخم وسواهما من المشاكل التي تحتاج إلى زمن طويل للمعالجة الفنية.
وقبل كل ذلك تحتاج الحكومة قبل تنفيذ أي رؤية اقتصادية أن تقوم بعملية تنمية سياسية حقيقية تفصل ما بين واجباتها الوطنية، وبين رغبات القوى السياسية التى أوصلت الفريق الحكومي للسلطة وتسعى بقوة إلى تطويعه لرغباتها ومصالحها بل حتى جره لمعتقداتها الأيديولوجية، ويعرف المفكر لويس باي في كتابه (جوانب التنمية السياسية) عمليات التنمية السياسية بأنها عمليات معالجة منهجية للأزمات الأساسية المحيطة بجسم الدولة، ومنها ست أزمات خانقة وهي : أزمة الهوية، أزمة المشروعية، أزمة التغلغل، أزمة المساهمة، أزمة الاندماج، أزمة التوزيع.
ولأن هذه المقالة غير معنية بتعريف تلك الأزمات وشرحها، ويكفي مطالعة الكتاب أعلاه والبحث في الانترنيت للتعرف عليها، فسوف ننتقل إلى الإجابة على سؤال مهم وهو: هل تمت معالجة أزمات التنمية السياسية في العراق من أجل الانتقال إلى تطبيق رؤية اقتصادية حقيقية؟
والإجابة للأسف الشديد: كلا. فلم يتم لحد الأن معالجة أزمة الهوية، والهوية الوطنية وكيان الأمة معرضان باستمرار للتهديد من الداخل عبر الاستقطاب الطائفي ومن الخارج عبر الاستهداف المخابراتي والمحاوري، وكذلك يتعرض المجتمع حالياً إلى أكبر وأخطر عملية تمييز في مسألة التوزيع العادل للثروة، وعلى هذا النحو بقية أزمات التنمية السياسية.
ثم إن الطبقة السياسية الحاكمة والمتنفذة ولواحقها النخبوية عاجزة عن وضع جدول بياني للاستفادة من ثنائية البدء من الاقتصاد لإنعاش السياسة أم استخدام السياسة للاستفادة من الاقتصاد! وهذه إشكالية راسخة ومزمنة في الوضع العراقي، وتقافزت كل الحكومات وأغلب رؤسائها بين خطي هذه الثنائية دون ملامسة الحل الثوري الكامن فيها.
وعلى هذا الأساس تتضارب القرارات الاقتصادية للحكومة، وتنكفئ نحو تسييس الخطوات الاقتصادية، وبسبب عدم وجود تنمية سياسية حقيقية تلجأ الحكومة إلى الانفراد بإدارة المال العام، وتمتنع عن فسح المجال للقطاع الخاص وللجهود الاستثمارية الحقيقية للمشاركة في تلبية المتطلبات الخدمية، ففي مسألة مزاد العملة تناقضت الحكومة في حجم الكتلة النقدية الدولارية المطلوبة لتلبية الاحتياجات الداخلية والخارجية واعترضت على مثلاً بيع مبلغ بمقدار 200 مليون دولار يومياً عبر مزاد العملية، لكنها عادت وتجاوزت هذا المبلغ لتصل إلى 250 مليون دولار يومياً، مما تسبب بديمومة ما يسمى السوق الموازي منذ أكثر من عام، وهو في الحقيقة "سوق سوداء" غير منضبط، ولم تقدر الحكومة والبنك المركزي التأثير فيه رغم الإجراءات التي تعلن عنها بشكل شبه يومي، ومؤخراً تراجع سعر صرف الدولار قليلاً أمام الدينار، ولكن ذلك حصل بسبب خفض الفائدة على الدولار من قبل الفيدرالي الأمريكي، وكذلك بسبب الركود في حركة السوق جراء موجة الغلاء، وأيضاً بسبب تأمين متطلبات المضاربين والمهربين من التحويلات الخارجية فأصبح المضارب والمهرب لا يُزاحم المعروض النقدي المخصص للسوق المحلي الذي يتراوح بين 20 الى 50 مليون دولار يومياً، وهذا يعني إذا زاد الطلب على الدولار في السوق المحلي مع أقرب حركة شرائية في السوق فسوف يزداد سعر صرف الدولار من جديد، فالدولار بهذا الشكل سيبقى سلعة تتأثر بالعرض والطلب.
ومؤخراً التحقت عدة إجراءات حكومية بمسار إثقال كاهل المواطن معيشياً ومالياً، كزيادة الرسوم عند إجراء المعاملات الرسمية كارتفاع رسوم الجواز العراقي من 40 الف دينار الى 91 الف دينار، ورفع اسعار البانزين، ومبالغ المخالفات المرورية المُبالغ بها، وغيرها من الإجراءات التي توحي بتنامي عقلية الجباية.
وإذا ما ذهبنا إلى ما هو أعمق فإن عقود الغاز مع إيران ودول أخرى توحي بعدم إيجاد حلول حقيقية لمشكلة الكهرباء، وإذا ما قرنا هذه المشكلة بحجم العجز في موازنة 2024 بحسب تصريحات رئيس اللجنة المالية النائب عطوان العطواني فأننا أمام أزمة اقتصادية كبيرة ستؤدي بنا إلى الاقتراض الداخلي الذي سيُفاقم الدين العام والاقتراض الخارجي الذي سيُسلط المؤسسات المالية الدولية على وضعنا الاقتصادي الهش.
ومع عدم وجود شفافية في طبيعة سير أعمال الخدمات على أرض الواقع، وعدم عرض كُلف المشاريع بشكل واضح فإن الرؤية الاقتصادية ستظل أسيرة الإرادة السياسية، وبذلك ستكون العواقب وخيمة على الملف الخدمي.