بحكم نشأتي في مجتمع يهيمن عليه حزب الله، في صغري لم أكن أعرف لقمان سليم إلا كما صوره إعلام الحزب. لم أكن أعرف الرجل المثقف الموثق لتاريخ الحرب الأهلية ومجزرة صبرا وشاتيلا. ولا الباحث الذي فتح دارته في حارة حريك أمام العامة مركزاً للثقافة والاطلاع. لقد نجح حزب الله في عزل ابن الضاحية الجنوبية لبيروت عن محيطه وفي قلب جمهوره ضده. لكنه فشل في تهجير لقمان سليم من الضاحية، حتى بقتله، حيث دفن رماده في دارته التي صمد فيها.
تمسك لقمان بالضاحية على الرغم من التهديدات التي طالته وتوقعه لمصيره الذي لقيه. ووثق الرجل الشجاع بحياته وموته كيف يعمل حزب الله على تصنيف معارضيه واغتيالهم معنوياً تمهيداً لتصفيتهم الجسدية، إن لم يرضخوا لتهديداته، مستخدماً أدواته الإعلامية في التمهيد للجريمة وتحضير الأرضية المناسبة لها ومن ثم محاولة مسح معالمها. وثقت تجربة سليم كيف يستخدم الحزب العقائدي سياسة العزل الاجتماعي لمعاقبة معارضيه وبناء حاجز يحجب عن أنصاره أية أفكار أو طروحات من خارج صندوق الحزب المستورد.…
تميز لقمان في محيط صار يقدس الرضوخ ويصنف التفكير كخيانة. لم ينكر الناشط السياسي علاقته بدبلوماسيين أجانب، كأي مهتم في الشأن العام على الساحة اللبنانية. لكن ما يتهم به مسموح لغيره شريطة التحالف مع الحزب. لم يسمح للرجل الشجاع بأن يعش ليرى المزايدين بالمقاومة وهم يرسّمون الحدود البحرية مع إسرائيل لا فلسطين، وهم يتنازلون لها عن مساحة شاسعة من المياه الإقليمية ويعدونها بترسيم الحدود البرية تمهيداً لاتفاقات أوسع. ولا ليرى ضحكة الضابط السابق في الجيش الاسرائيلي عموس هوكشتاين وهو يتجول بأريحية على المسوؤلين الممانعين، ويسوح مبتهجاً في قلعة بعلبك حيث يفرض حزب الله نفوذه. ولا ليرى زوج "مغنية المقاومة" وهو على تواصل دائم بالمفاوض الاسرائيلي-الأميركي.
جهد حزب الله لشيطنة لقمان سليم، وأراد بقتله أن يجعله عبرة لكل صوت شيعي معارض، في لحظة سياسية كان لصوت لقمان تأثير كبير، وكان كثر يخرجون من تحت عباءة الحزب. لسنوات ظل لقمان عرضة للتخوين والحملات التي تحرف أقواله وتصوره عدواّ للشيعة بغية تحريضهم عليه وقلبهم ضده. هكذا يحاصر الصوت الذي يعلو فوق صوت الحزب. أذكر كيف وقعت أنا نفسي في فخ دعاية حزب الله قبل أن أصبح ضحية لها. ولا أندم على ذلك إذ كنت قاصرة في السن وفي السياسة. كان لقمان يالنسبة إلي من الموصومين الذين علينا الابتعاد عنهم كي لا نوصم نحن أيضاً بتهمة العمالة. مع الوقت أيقنت اللعبة. أذكر كيف نجح حزب الله في عزلي أنا أيضاً عن الرجل المثقف قبل أن أنضج وأدرك نهج الحزب وكيف يمسك المجتمع عبر خلاياه الأصغر ليفرض هيمنته الكاملة. بدءاً من الأفراد مروراً بالعائلة التي يفرض عليها وظائف سياسية، مروراً بالمناطق وصولاً إلى كل جمهوره الذي يجعله مهيئاً للقتل وتبريره.
حتى عندما أصبحت معارضة علنية لسياسات الحزب، في فترة ما ظلت رواسب من دعايته المعادية للقمان سليم عالقة في وعيي. أذكر عندما كنت أعمل على كتابة تحقيق عن واقع الضاحية الجنوبية لبيروت في الذكرى الثالثة عشرة على حرب تموز، أي قبل انتفاضة تشرين الأول 2019، كيف ارتبكت عندما نصحني مدير في الصحيفة أن أتصل بلقمان لأسأله عن الموضوع كونه من الملمين بالأمر. بداية حاولت البحث عن مرجع، لدقائق خشيت من أن توصم مقالتي وأن أصنف في صف من سميوا بـ "شيعة السفارات". أردت لنفسي خطاً مستقلاً. هي خشية تظهر لدى كثر من معارضي حزب الله الذين يحاولون دوماً الحرص على نيل شهادة حسن سلوك منه. بعد تردد عدت واتصلت بالباحث المنفتح على الحوارات والأسئلة، واليوم أسعد بتلك المقابلة، خصوصاً بعدما أكد حزب الله مراراً أنه يضع جميع معارضيه في سلة واحدة، سلة العمالة. حتى وإن لم يفعلوا سوى المطالبة بحقوقهم البديهية.
اليوم تأت ذكرى اغتيال لقمان سليم بينما ينجح القاتل في منع استكمال التحقيقات، وهذا كفيل بأن يشير إلى المجرم الذي يهيمن على مسرح الجريمة وأجهزة تطبيق القانون. بينما يترك غياب لقمان سليم فراغاً لم يملأه بعد أي معارض. فهو الذي جمع بين الجرأة في القول وفهم تركيبة حزب الله وآلية عمله. أما الحزب فيستمرّ في سياسة التخوين والوصم نفسها لعزل معارضيه وبناء عازل بين أنصاره وأي طرف آخر يرغب بمحاورتهم.