ليس لبنان رُقعَة جغرافيَّة تقليديَّة بالمعنى الجيو-سياسيّ. ثمَّة ما رافَق لُبنَان وشَعبَهُ منذ آلاف السِّنين مُنعَرَجاتٌ كادَت تودي به إلى تهلِكةٍ كيانيَّة، لولا أنَّ روحًا ما تَقُودُ أَحرارَهُ دونَ هوادَة إلى ثباتٍ في الوجودِ والبقاء، ما عطَّل الانتِقال إلى المجازفة بالشَّهادة والدَّور.
مفادُ القولِ بلا تقليديَّة رُقعَة لبنان الجُغرافيَّة، ليس يوتوبيًّا ولا شوفينيًّا، بل هُو يستنِدُ إلى النَّموذج الحضاريّ التعدُّدي الذي يحتضِنُه شَعبُه من ناحِيَة، كما إلى طبيعة النِّظام التَّشاركيّ الذي قامَ على الصِّيغة والميثاق في مَرحَلَةٍ كان فيها العالَمُ أجمَع منخرِطًا في ترسيخ أنظمة ديكتاتوريَّة، أو ثيوقراطيَّة، أو علمانيَّة من ناحِيَةٍ أُخرَى. لبنان أتى يَطرَحُ خيار المواطنة الحاضِنة للتنوُّع، هُنا بيتُ القصيد.
ما سَبَق لم يَمرّ مرور الكِرام في لَعنة الجيوبوليتيك. الانقِضاض على لُبنَان يستمرُّ دونَ هوادَة. إحتلالات. وصايات. حروب. خطف، إغتيالات، سرقات. إرتِهانات. كُلُّ هذه تصدُّعّاتٌ بنيويَّة لم تَلقَ مُعَالَجَةً راديكاليَّة حتَّى السَّاعة. قدَّم شهيداتٌ وشُهَداءُ دمائَهُم، ليبقى هذا النَّموذج الحضاريّ حيًّا. لم تتوقَّفُ سُبحَةُ الشَّهادة. لكنَّ الرِّيبَةَ قائِمَةٌ، خُصُوصًا في هذه اللَّحظَة التَّاريخيَّة التي تواجِه فيها هويَّتُه تحوُّلاتٍ على أكثرٍ من مستوى أَقسَاها تَحلُّلٌ هائِل في بُنيَةِ الدَّولة، وتشكيك بإمكانيَّة استِدامَة ميثاقيَّةِ العيشِ المشترك، ناهيك بانعِدامِ وزنٍ في مُربَّعِ القِيادَة السِّياسيَّة السِّياديَّة في مُقابلٍ تغوُّلٍ لِمُعَسكَرٍ مؤدلَج يؤدِّي أجندةٍ لا علاقَة لها بأمن لبنان القوميّ، وبأمانِ شعبِه الإنسانيّ بأيّ صِلَة.
بالإستِناد إلى هذا الأَرَقِ الكيانيّ تعُودُ إلى الذَّاكرة هَوَاجِسُ حَول مدى استِعداد اللُّبنانيين للبقاء في أرضِ صراعٍ لا تهدأ. أو هُم في جيناتِهم يحمِلُون بُعدًا تأسيسيًّا لمخاطبة الشرق والغرب بلُغَة المحبَّة والحِوار والسَّلام والدّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان، بِما يؤمِّنُ مَنَاعَةَ انتِماءٍ تقِيهِم شرورَ من تُسوِّلُ نَفسَهُ تهديد أمنِهم وأمانِهم كُرمى هذه أو تلك من المسارات الاستقطابيَّة المحاوريَّة؟ هذا تساؤل أوَّلٌ مفصليّ. ثُمَّ ماذا عن حقيقَةٍ متداوَلة تعكِسُ كُلّ المآزِق في بنيَة النِّظام أكثر منه في سلوكيَّاتِ المنظومة الموبوءَة القائِمة على تحالُفِ المافيا-الميليشيا مرفودَةٍ بحلفِ أقليَّاتٍ مقيت، واستدراج حمايات عبثيّ. هذا تساؤلٍ ثانٍ مفصليّ.
أضِف إلى هذَين التَّسَاؤلين انكِفَاءَ النُّخَبِ والِقوى المجتمعيَّة الحيَّة عن خَوض غِمار البَحثِ في مسبِّبات اللَّعنة الجيوبوليتيكيَّة، وبراغماتيَّة التَّعاملُ منها، أكثر منه في الانكِباب على العَوَارِض. هذا الانكِفاءُ مَقتَلَة. والإشارَةُ إلى الانكِفاء لا تستهدِف غياب التفكُّر في تشكيل رؤيَةِ إنقاذ لُبنان، وصَونِ نموذجِه الحضاريّ، بِقَدرِ ما تعني المسائل المُساءَلَة العميقة في إنحِجاب ديناميَّاتٍ فعَّالة لقلبِ الطَّاولة على تقاطُعِ مصالِح جهنميّ في جَوهرِه أبعَدُ من لُعبَةِ نُفوذٍ عابِرَة.
القضيَّة اللُّبنانيَّة تستأهِلُ استراتيجيَّة مُبادِرَة بَدَل الاستِنقاعِ في ردِّ الفِعل العاديّ. حمى الله لُبنان.