أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مقابلة لصحيفتي "لا كروا" و"ليبراسيون"، أنه سيتقدم أمام مجلس الوزراء، في نيسان المقبل، بمشروع قانون "نهاية الحياة". ويهدف لمساعدة أصحاب الأمراض المستعصية على الموت، بناءاً على طلبهم، بحال توفر عدد من الشروط الخاضعة لمراقبة صارمة. وميّز ماكرون مشروعه عن "الموت الرحيم والمساعدة على الانتحار". ويبدو أن ماكرون يحاول أن يوفق في مشروعه بين وجهتي نظر متعارضتين. الأولى كنسية ترفض وضع حد للحياة والثانية تعتبر أن من حق المرضى تقرير وضع حد لمعاناتهم.
ويتوقع الرئيس الفرنسي أن يجري عرض مشروع القانون على الجمعية الوطنية لقراءة أولى في أيار المقبل. ويأتي إعلان ماكرون بعد سنوات من المطالبات بتشريع الموت الرحيم حفلت بقصص مرضى وثقوا معاناتهم. وبعد اتهام الرئيس بالتردد والمماطلة، وهو الذي صرح قبيل انتخابه عام 2017، بأنه شخصياً يفضل اختيار نهاية حياته. ويبدو أن فرنسا تتقدم ببطء وحذر في هذا المجال بعد أكثر من عشرين سنة من فتح الجدل حوله والمطالبة بإقرار قانون يشرع الموت الرحيم.
وفق "لا كروا"، اختار ماكرون مصطلح "المساعدة على الموت" لأنه بسيط وإنساني ويحدد بوضوح ما يدور حوله. ويميز الرئيس الفرنسي مشروعه المحدد الحالات والمعايير، عن القتل الرحيم الذي يعني إنهاء حياة مريض، بموافقته أو موافقة عائلته، وعن الانتحار بمساعدة طبية الذي يسمح للأشخاص بالتخلص من حياتهم. ويعتبر أنه "بهذا النص، ننظر إلى الموت في وجهه".
يشترط مشروع القانون الذي اعتمد على رأي اللجنة الوطنية الاستشارية للأخلاقيات، أن يكون طالب المساعدة على الموت بالغاً، قادراً على التمييز ويتمتع بالوعي الكامل. أي لا يعاني من أمراض نفسية أو أمراض تنكسية عصبية كمرض الألزهايمر. وأن يعاني من مرض عضال غير قابل للشفاء على المدى القصير أو المتوسط، ولا مجال للتخفيف من آلامه.
دوماً ما ضغطت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا ضد إقرار قانون يجيز الموت الرحيم. وعلى الرغم من أن مشروع ماكرون يبدو محدداً وأكثر تقييداً من قوانين دول مجاورة لفرنسا، كسويسرا وبلجيكا، لكن رئيس مؤتمر أساقفة فرنسا، إريك مولان-بوفور، عبر عن رفضه للمشروع. واعتبر أن ماكرون يفتح الباب أمام المساعدة على الانتحار والقتل الرحيم. وعلى الرغم من أن الرئيس اجتمع سابقا مع الأسقف وناقشه بالقضية ويبدو أنه اختار صيغة لا تغضب الكنيسة، لكن الأسقف اتهم ماكرون بالخداع. إذ اعتبر مولان-بوفور أن الرئيس "لاءم نص المشروع" مع نقطة الأخوة التي أصر هو عليها.
وإذ يجوز الاعتقاد بأن من نتائج وغايات الاقتراح خفض كلفة العناية الطبية بأصحاب الأمراض المستعصية والحالات الميؤوس منها، خصوصاً في ظل ارتفاع معدل الأعمار في فرنسا وما يترتب عنه من تكاليف مالية وطبية. لكن ماكرون تعهد في نص المشروع نفسه بأنه وبمقابل المساعدة على إنهاء الحياة سيعزز الرعاية التلطيفية وسيستثمر لهذه الغاية مليارات، بالإضافة إلى مبلغ 1.6 مليار يورو يخصص حالياً للرعاية الداعمة. كما أكد رفضه لأن يتم التقدم بطلب المساعدة على الموت لأسباب اجتماعية.
وعلى الرغم من معارضة المؤسسات الدينية المشروع لأسباب عقائدية، غير أنه وبالنسبة لآخرين أقل من المطلوب. إذ يطالب هؤلاء بمنح المرضى الذين يعانون الحق بإنهاء حياتهم، وبالتالي أن يكون المشروع بمستوى الموت الرحيم. هذا فيما لم يمنع رفض فرنسا إقرار هكذا قانون فرنسيين عن اللجوء لهذا الخيار. فسافر قسم من المرضى الذين لم يعودوا قادرين على احتمال أوجاعهم إلى الجارة بلجيكا التي تتيح لهم الموت الرحيم. وقد شكا سابقاً عدد من المرضى، في تقارير صحفية، من عجزهم وعائلاتهم عن تحمل تكاليف السفر إلى بلجيكا والاجراءات الطبية هناك، مطالبين المسؤولين الفرنسيين بتشريع الموت الرحيم كي لا يظل خياراً متاحاً فقط لمن يملك المال اللازم.
قضية فانسان هامبر
يمتد سجال تشريع الموت الرحيم في فرنسا لأكثر من عشرين عاماً. وطرح بقوة في العام 2002، في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك ضمن ما اشتهر بقضية فانسان هامبر. أثارت القضية في حينها اهتمام الإعلام الفرنسي بعد انتشار رسالة مؤثرة من هامبر، ذو ال21 عاماً، يطلب فيها من شيراك السماح بتنفيذ رغبته بالموت الرحيم. وذلك بعد عامين من إصابته بشلل رباعي جراء حادث سير أدى لفقدانه بصره والقدرة على الحركة والنطق وسبب له آلاماً مستمرة. تمكن الشاب من التعبير عن رغبته عبر التواصل مع ممرضته ووالدته. رفض شيراك طلب هامبر ووالدته ماري. لكن الأم تمسكت برغبة ابنها، وفي أيلول 2003، قامت بإعطائه جرعات كبيرة من الدواء لإنهاء معاناته. لم يمت الإبن، لكنه دخل في غيبوبة ووضع على أجهزة الانعاش بينما اعتقلت الوالدة لفترة. بدوره أقدم الطبيب فريدريك شوسوا على خطوة جريئة وغير قانونية. فنزع أجهزة الانعاش عن جسد الشاب نزولاً عند رغبته وعائلته، ليتوفى.
فتحت هذه القضية الجدل الأخلاقي والطبي حول حق المرضى بإنهاء حياتهم. وبدفع من معاناة ابنها سعت الوالدة لجمع آلاف التواقيع للضغط باتجاه إقرار قانون يعترف ب"حق الموت الرحيم والانتحار بمساعدة طبية".
في العام 2005 أقرت فرنسا قانون" ليونيتي" الذي يمنع العلاج القاسي ويسمح للأطباء بالتوقف عن تقديم العلاجات الطبية التي لا تجدي "ولا تساهم سوى بالحفاظ على الحياة بشكل صناعي". عدل القانون عام 2016 وبات يسمح للأطباء بوضع المرضى الميؤوس من شفائهم في غيبوبة عميقة عبر التخدير إلى حين وفاتهم. لكن ذلك ظل غير كاف بالنسبة للعديد من المرضى، وحتى الأشخاص السليمين الذين يرغبون بأن يكون لديهم الحق في تقرير مصيرهم في حال عانوا من أمراض مستعصية.