ما من عاقل يستطيع أن يستوعب كيف يقبل فريق سياسيّ بالارتهان، لدرجة يُفقِدُ ذاتَهُ هويّتها الشّخصيّة الكيانيّة لحساب مشاريع إيديولوجيّة أكبر منه وأكبر من أرضه الأم. لكن في حال اتّخذنا من وضعيّة هذا الفريق وضعيّة لنا نستطيع أن نفهم إيمانه بما لا نؤمن به. فبنهاية المطاف لم يتوانَ هؤلاء كلّهم بإعلان نكرانهم للبنان " الأمّة" على حساب أمّه الفقيه، انطلاقًا من قناعة إيديولوجيّة لا تشبه الفكرة اللبنانيّة بشيء.
فالجهود الحميدة التي تبذلها اللجنة الخماسيّة لحساب استعادة الانتظام السياسي في الدّولة اللبنانيّة قد لا تصل إلى ايّ نتيجو محمودة، وذلك لأنّ الفريق الذي يدور في الفلك الصفوي قد تقبّل بشكل لا يقبل أيّ جدل، بسلخ نفسه من صلب الفكرة اللبنانيّة التي كانت الأساس بكوين لبنان الكبير. وما لا يمكن تجاوزه أنّ هذا الفريق هو المسؤول الأوّل والخير عن النّهج اللبناني الذي انبثق من تداعيات انتمائه، والذي بات يجاهر علنًا بالانفصال عن لبنان الكبير.
وهذه قناعة لا يمكن إنكارها بعدما نجح الفريق الصّفوي في لبنان، بفعل الترهيب والترغيب، الذي نجح بممارسته طوال أربعة عقود، بسلخ قسم كبير من اللبنانيّين عن الهويّة الكيانيّة اللبنانيّة الحقيقيّة. هذه الهويّة التي نجح بتثبيتها في الوجدان اللبناني ذلك الفكر اللبناني الحرّ الذي انبثق من مجمع اللويزة في العام 1736. وهذا ما أرسى لتيّار فكريّ يتنامى يومًا بعد يوم عماده الأساسيّ اليوم فشل هذه الصيغة الكيانيّة التي تجلّت بخروج قسم من المكوّن الحضاري الشيعي، تماشيًا مع انتمائه الصفوي العقائدي.
من هذه المنطلقات الحضاريّة نلج الاشكاليّة اللبنانيّة التي تتبلور يومًا بعد يوم. فلا يمكن الاستمرار في تركيبة يصرّ فيها جزء كبير من المكوّن الحضاريّ الشيعي على إخراج نفسه منها. ولن تنجح أيّ عمليّة ترميم كِيَانيّ لمَن أعلن ويعلن في كلّ لحظة تمايزه عن هذه الصيغة، لأنّه يرى ذاته الكِيَانيّة أكبر منها بكثير، لحساب الانتماء الايديولوجيّ الذي يتفوّق على الانتماء الوطني.
لذلك كلّه الاتّفاق الذي خرجت منه الخماسيّة بالتوافق على ضرورة إنجاز الاسستحقاق الرئاسي بمعزل عن الحرب على غزة، سيبقى في الشكل على قاعدة الانتظار في ثلاجة المفاوضات الدّوليّة وهذا الفريق الذي يعمل وفاقًا للتقيّة الديبلوماسيّة لأنّه يستشرف بأنّ المجتمع الدّولي لن يفاوض الضعفاء، بل هذا المجتمع سيفاوض الأقوياء وهو سيّدهم، لنّه يملك قوّة السلاح. لكن فات هذا الفريق أنّ قوّة السلاح تبقى باطلة أمام قوّة الكلمة والحقّ والحرّيّة.
ولا يظنّنَّ أحد أنّ هذه القوّة لا قدرة لها لتترجم على أرض الواقع. ماذا وإلّا لكان فريق إيران في لبنان قد انتخب مرشّحه الرّئاسي منذ اليوم الوّل لمغادرة الرئيس السابق ميشال عون. وهذا ما لا يستطيع استيعابه جمهوره الذي ما زال يعيش نشوة قوّة فائض السلاح غير الشرعي. وهذا ما حدا به إلى التهجّم على رمز لبنان الكِياني، البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي فلو أنّ اللجنة الخماسيّة اعتبرت انّ اجتماعها بدولة الرئيس برّي مختلف بالشّكل والمضمون في ساعة وخمس دقائق من الوقت، وكان النقاش صريحاً وواضحًا، فهي لن تستطيع تسييل مفاعيل هذا الاجتماع لبنانيًّا لنّ الرئيس برّي يملك المفتاح ولا يملك القرار.
والاعتقاد الذي خرجت به الخماسيّة لجهة فصل الاستحقاق الرئاسي في لبنان عن الحرب، يفترض أن يشكل حافزاً بالنسبة إلى اللبنانيين للسعي لإنجاز الانتخابات الرئاسية، سيبقى بلا أفق سياسيّ فلا يمكن ترجمته على أرض الواقع. واهمة الخماسيّة لأنّ القرار اليوم ليس في لبنان بل في طهران التي ترهن مصير لبنان على مذبح بازار المفاوضات الدّوليّة وباعتقادنا أنّ الخماسيّة قد انصدمت من الارادة اللبنانيّة الصفويّة التي لا تريد إخراج لبنان من التّون الذي زجّته فيه.
ولا نستغرب إصرارها على البحث في الإطار العام، وفي المواصفات التي يفترض أن يتمتع بها الرئيس بعيدًا من الأسماء فالمواصفات واضحة بالنسبة إلى الفريقين المتنازعين.
والحوار الذي يدعو إليه الرئيس برّي إنّما يدعو إليه على مرشّحه فقط لا غير؛ من دون الأخذ بعين الاعتبار لإرادة أكثر من نصف اللبنانيّين. فلا يمكن لدولته ان يدعو لحوار على بند واحد وبنتيجة مبرمة. ففي ذلك ضرب من الاستهتار والاستخفاف بإرادة أكثر من نصف اللبنانيّين والتعاون الذي يشترطه دولته رابطًا إيّاه بالتوافق اللبناني يبدو كذلك الحبّ المستحيل فالتوافق اللبناني هو بين اللبنانيين، ولن يكون بين الذين اخرجوا أنفسهم من صلب الكيانيّة اللبنانيّة.
لذلك كلّه، فليوفّر على نفسه دولته هذا العناء، وليوفّر على اللبنانيّين جميعهم هذا الوقت الضائع، وليكفّ في البحث عن أيّ حلّ في الوقت البدل عن ضائع، الحرب في غزّة هي في غزّة وليست في لبنان. نتعاطف إنسانيًّا وسياسيًّا وديبلوماسيًّا مع أيّ قضيّة إنسانيّة في أيّ صقع من الاصقاع الأربعة.
لكنّ هذا التعاطف لن يكون على حساب قيام الدّولة اللبنانيّة. ومَن يريد ربط مصير لبنان والاستحقاق الرئاسي فيه بالحرب الاقليميّة الدّائرة، معتبرًا انّه أكبر من لبنان، فليسمح لنا باعتباره بكلّ صراحة بأنّه خارج لبنان. ومَن لا يريد لبنان وطنًا نهائيًّا لأبنائه جميعًا فليُخرِج هو نفسه وانتماؤه الايديولوجيّ من لبنان الكياني.
فلبنان الـ 10452 ك م2 باقٍ شوكةً في عيون هؤلاء جميعهم ومفهوم لبنان الرّسالة باقٍ، وإن لم يكن اليوم موجودًا في قناعاتهم ولا يظنّنّ أحد أنّ رهانه على التسويات الاقليميّة أو الدّوليّة قد يسمح لمشروعه بالانتصار.
فبنهاية المطاف الجبهة السياسيّة مفتوحة على مصراعيها والخماسيّة المصدومة بإرادة بعض اللبنانيين لم تفاجئنا ككيانيّين سياديّين، لأنّنا نعرفهم على حقيقتهم وتجاربنا مع أسلافهم كفيلة باتّعاظهم. وإن لم يتّعظوا اليوم كما بالأمس، فنحن رأس حربة بمواجهة مشاريعهم ليبقى لبنان الرسالة، ولو بشكل مختلف، ولو حتّى بمساحة مختلفة. لكن سيبقى لبنان.