في 5 يونيو\حزيران عام 1967 إستفاق العرب على غارات قامت بها الطائرات الحربية الإسرائيلية على مطارات مصر، ودمرت حينها الطائرات الحربية المصرية، وأكملت غاراتها على دول عربية أخرى، لتبدأ حرباً جديدة بين الدول العربية وإسرائيل عرفت بحرب الأيام الستة.
إستشعر المسؤولون اللبنانيون وفي مقدمهم رئيس الجمهورية حينها شارل الحلو خطر الحرب وتداعياتها خصوصاً على الوضعين المالي والنقدي، فعقد مجلس الوزراء في اليوم ذاته جلسةً طارئةً برئاسة رئيس الحكومة آنذك رشيد كرامي، طالب في خلالها بصلاحيات تشريعية مالية واقتصادية لمواجهة المرحلة وتداعيات هذه الحرب.
بدوره، لم يتأخر مجلس النواب اللبناني في ملاقاة الحكومة وعقد في اليوم ذاته ايضاً جلسة طارئة برئاسة الرئيس صبري حمادة، وفي أقل من نصف ساعة وافق المجلس النيابي على طلب الحكومة، وصدر القانون رقم 45/67 تاريخ 5 حزيران 1967 بإعطاء الحكومة حق التشريع لمدة شهرين بمراسيم تُتخذ في مجلس الوزراء في القضايا الاقتصادية والمالية والقضايا المتعلقة بالسلامة العامة والأمن الداخلي والأمن العام، وكذلك حق تعديل الأحكام الأخرى فيما خص قضايا السلامة العامة، بالإضافة إلى حق إقرار تنسيق العمليات العسكرية بين القوات اللبنانية والقوات العربية، بما في ذلك حق إدخال قوات عربية إلى الأراضي اللبنانية، كما لها حق تأمين المال اللازم للمجهود الحربي.
وبعد ثلاثة أيام فقط أي في 8 يونيو \ حزيران عام 1967 اجتمع مجلس الوزراء، وأصدر المرسوم الاشتراعي رقم 1 والذي حمل عنوان "تنظيم علاقات المصارف مع زبائنها لغاية 29 حزيران عام 1967".
وأبرز ما جاء في المرسوم الاشتراعي المذكور:
" يُجاز لكل صاحب حساب دائن بالليرة اللبنانية أو بأي عملة أخرى أن يسحب مبالغ نقدية لا يتجاوز مجموعها في المصرف الواحد الألف ليرة لبنانية خلال الفترة الممتدة من 5 حزيران ولغاية 29 منه".
"يحق لكل صاحب حساب دائن تجاري أن يستعمل رصيد حسابه لحاجات مهنته العادية دون سواها وذلك بمختلف وسائل الدفع المألوفة باستثناء الأوراق النقدية".
"يجوز للمصارف أن تدفع نقداً لأرباب العمل من حساباتهم التجارية أجور المستخدمين والعمال لديها الذين تستحق رواتبهم قبل 29 حزيران وذلك على أساس جداول مفصلة وعلى مسؤوليتهم وعلى أن لا يتجاوز المبلغ المدفوع للمستخدم أو العامل 500 ليرة .. ".
لقد إستطاع لبنان وقطاعه المصرفي في تلك الفترة بفضل هذه الإجراءات السريعة والحازمة أن يتجاوز الأزمة، وأن يحافظ على الودائع وعلى إستقرار الليرة، والأهم من ذلك كان الزام المصارف بإجراءات واحدة تجاه عملائها من دون تمييز، ما عزز ثقة العملاء بالقطاع المصرفي.
في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، إندلعت في لبنان تحركات شعبية بسبب الضرائب على البنزين والتبغ والمكالمات عبر الإنترنت على تطبيقات مثل واتساب، وهو ما عُرف فيما بعد بثورة 17 تشرين، ورغم دقة المرحلة لم تشعر الطبقة الحاكمة بخطورة ما يحصل وبضرورة العمل على إتخاذ إجراءات سريعة وحازمة، مثل إقرار قانون "الكابيتال كونترول" للحفاظ أقله على الودائع وعلى قيمة العملة الوطنية، وإلزام المصارف كافة بإجراءات واحدة تجاه عملائها من دون تمييز، بل وصل الأمر إلى تواطؤ بعض السياسيين والنافذين في البلد مع أصحاب المصارف – بعد إقفال المصارف أبوابها للمرة الأولى لمدة أسبوعين – وقاموا بتهريب أموالهم إلى الخارج وتحديداً في فترة الإقفال.
وتُرك للمصارف حق التعامل مع زبائنها بطرق إستنسابية تتلاءم مع سياسة وعمل كل مصرف دون حسيب أو رقيب، في ظل إنهيار صُنف بين أسوأ الإنهيارات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر بحسب البنك الدولي.
غياب الإجراءات من قبل الدولة اللبنانية، وإستنسابية التعاطي من قبل المصارف، بالإضافة إلى عدم وضع خطة واضحة لكيفية الحفاظ على الودائع وردها لأصحابها على أسس واضحة وشفافة، وإكتفاء أصحاب المصارف ومن يدور في فلكهم بالقول للمودعين - على مدار الساعة - إن الدولة هي التي سرقت ودائعكم وهي المسؤولة الوحيدة عن الانهيار، وتنصّل أصحاب المصارف من المسؤولية والعمل بشعار" الكن معنا وما معنا "،
دفعت ببعض المودعين أخيراً إلى إقتحام المصارف - بالأسحلة البلاستيكية - لتحرير ودائعهم، الأمر الذي دفع بالمصارف إلى إقفال أبوابها الأسبوع الماضي لمدة ثلاثة أيام، لتعود وتمدد هذا الإقفال لمدة يومين إضافيين، بحجة عدم توفر أي خطة أمنية من قبل وزارة الداخلية لحماية المصارف بشكل خاص. مع العلم أن وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي سبق وأعلن منذ توليه الوزارة أنه ليس في وارد وضع القوى الأمنية بمواجهة الناس.
اليوم وبعد رفض وزارة الداخلية مجددا إعداد خطة استثنائية لحماية المؤسسات الخاصة وتحديداً المصارف، و عدم الذهاب الى سيناريو وضع العسكر في مواجهة الناس، قررت المصارف استئناف عملها ابتداءً من (الإثنين) عبر قنوات يحددها كل مصرف لعمليات المؤسسات التجارية والتعليمية والاستشفائية وسواها، وعبر الصرافات الآلية للجميع، مما يسمح لهم بإجراء ايداعاتهم وسحوباتهم، كما يسمح بتأمين رواتب القطاع العام إثر تحويلها إلى المصارف من مصرف لبنان ورواتب القطاع الخاص الموطنة لديها.
صحيح أن المصارف عادت إلى العمل عبر قنوات جديدة يحددها كل مصرف، ولكن هذه الطريقة لن تبقيها بمأمن عن السيناريوهات الجديدة التي قد يلجأ إليها المودعون لتحرير ودائعهم المحجوزة، والتي قد لا تكون هذه المرة بأسلحة بلاستيكية!
لذلك بدل أن تلجأ المصارف إلى الطلب من القوى العسكرية إعداد خطة أمنية لحمايتها، كان الحري بها أن تتعاون مع مصرف لبنان والحكومة لوضع خطة واضحة وسريعة تعيد من خلالها الودائع إلى أصحابها بدل أن تقول لهم أيها اللبنانيون عذراً .. لقد "طارت" ودائعكم!