كتب بديع يونس في جسور:
نعيش اليوم في لبنان ضحايا "الأربعينيات" ومصيرها. قرابة الأربعين يومًا ليخرج الرّئيس ميشال عون من بعبدا، أو بأفضل تقدير لتنتهي ولايته. أربعين يومًا أو أكثر بقليل تفصل القصر عن الشغور فيما تحرير بعبدا من سطوة الضاحية يبقى أملا ـ إن لم نقل مفقودا ـ بعيد المنال.
قبل أربعين عامًا، اغتيل الرّئيس بشير الجميل. اغتيل معه الحلم ببناء لبنان جديد. اغتيل معه مشروع الدولة ومفهوم التحرّر وتكرّست بمقتله الذمية والتبعية.. وهو الذي قال: "حتى لو الفاتيكان، ومصر وسوريا وأميركا يريدون رئيسًا لا نريده.. فلن يصل". هو البشير نفسه الذي بكاه ونعاه المسلم والمسيحي، هو الذي حارب "العنتريات" والـ"زعرنات" في سبيل الدولة والوطن.
بعد اغتياله استفحلت الحرب أكثر فأكثر لـ8 أعوام غالبًا ما كان للنظام السوري وعلى رأسه حافظ الأسد الدور الأكبر في تعزيز "الدم" مباشرة أو عبر الفتنة ورجالات موالية له في المؤسسة العسكرية كما في الميليشيات. وصل الحال مع انتهاء الحرب لتحتل دمشق بيروت مدّة 15 عامًا وتؤمن الغطاء لحزب الله الذي أمعن بعد الـ1990 في استراتيجية التمدد داخل المؤسسات وبناء ترسانة أسلحة وصولا للسيطرة على البلاد واستبدال دمشق بطهران.
في أربعينيّة "البشير" تصادف أربعينيّة حزب الله. شهدت الضاحية حملة إعلامية وإعلانية للمناسبة. ملأت الباحات والشوارع لافتات تمجّد الحزب فيما تغلّف صور "العزّة والكرامة"جدران الأبنية الرئيسية في عقر داره. فأين "العزة" و"الكرامة" مما يعيشه لبنان واللبناني اليوم؟
بعد 40 عامًا على اغتيال البشير و40 عامًا على تأسيس حزب الله، اغتيل مشروع الدولة وتعزّز حكم الدويلة. وهذا المشهد اليوم في لبنان مع أربعينية الحزب يا فخامة الرئيس البشير. دعنا نخبرك عنه ويبقى الواقع أسوأ.
فلبنان "بوابة بين الشرق والغرب"، بات جزيرة منكوبة منقطة الأوصال عن محيطه العربي والمجتمع العالمي، بفعل ممارسات إحدى "مكوّناته الأساسية" التي اختطفت قراره الداخلي وهيمنت على علاقاته الخارجية.
لم يعد لبنان "سويسرا الشرق" عربيًا كما فقد مفتاح بوابته أوروبيًا وأميركيًا. انتهج الفصيل الأربعيني سياسة عدائية مع الجوار، فاعتدى على الشعب السوري واليمني والعراقي وحوّل هذه الدول منصات للاعتداء على الخليج حيث "يسترزق" نصف مليون لبناني.
لا داعي للدخول في التفاصيل لأنها معلومة. وحول العالم نشط في أوروبا وأميركا بين عمليات تصنفها هذه الدول بالإرهابية وتجارة مخدرات وانخراط بالجريمة المنظمة.
غيض من فيض خارجيًا، لكنّ كل ذلك ما كان ليؤثّر على لبنان الرسمي (الذي حلمت به يا البشير) لو كان براءً من حزب الله، فيما الحزب نفسه داخل الحكومة وفي مفاصل الدولة بـ"شكل رسمي" يسيطر على مفاصلها ويتحّكم بقراراتها داخليًا وبعلاقاتها خارجيا.
داخليًا.. يعيش أبناء الجزيرة اللبنانيّة تحت حكم الحزب الواحد، على وقع أزمة اقتصادية غير مسبوقة وأزمات خلّفها الفساد وغياب الدولة على حساب الدويلة القائمة على المساحة الجغرافية أجمع لتلك الجزيرة. نتخبّط اليوم بين مسرحية سياسية "ديمقراطية" وسلطة "أمر واقع" على أرض الواقع. الدولار يحلق، جنى العمر بات "فراطة"، الناس تموت على أبواب المستشفيات، شباب لبنان يهرب من الجزيرة "في قوارب الموت"، أطفال بدون مدارس، كبار السن بدون دواء، بيروت مظلمة بشوارعها وفي قلوب أبنائها.
لا ينفصل الاقتصاد عن السياسة في تلك الجزيرة كما في العالم الآخر. لكن، لا يمكن إغفال أن الاكثر إلحاحًا في الوضع اللبناني هو فك قبضة حزب الله عن مقدرات البلد حتى تستطيع أي حكومة الشروع في الإصلاح لإنقاذ أبناء الجزيرة من العوز والفقر والجوع والنهوض بمشروع الدولة الذي حلمت به يا البشير بعدما استفحلت الدويلة وعشّشت في وطننا الجامع لكل طوائفنا ومذاهبنا.
في لبنان اليوم "يا البشير" لا أمل طالما دويلة الأربعيني تسيطر على حلمك الأربعيني. فمن المؤكد أن الخطط الإصلاحية لن ترى النور ما دامت تتعارض مع الاقتصاد الموازي الذي خلقه حزب الله إضافة لـ"اقتصاده الأسود" الذي ينسف الدولة وينضب مواردها لمصلحة مشروع الدويلة.
وإن كنت تسأل يا البشير عن "الحل".. فقرار الدعم الأوحد الذي يُعوّل عليه أبناء الجزيرة لمحاولة إنقاذها هو من صندوق النقد الدولي، إلا أنّ شروط الأخير المحقة والقانونية يعترضها حزب الله جملة وتفصيلا حيث أنّ من بين هذه الشروط: رفع السيطرة عن مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت وعن مرفأ بيروت، وإقفال المعابر البرية غير الشرعية (عددها يتخطى الـ120 على امتداد الحدود مع سوريا).
أما استيفاء هذه الشروط تحديداً فمفتاحها بيد حزب الله وهو المسيطر الفعلي على هذه الموانئ والمعابر.
"يا البشير".. لن تستعاد الثقة العربية والدولية بلبنان لكي يمنح المليارات الواردة في خطة الحكومة من دون وقف التدخل في سوريا والعراق واليمن التي يتولاها حزب الله، إضافة إلى تنفيذ القرارات الأممية المتضمنة عدم استيراده للسلاح، وكبح جماحه عن تنفيذ عمليات في الخارج عربيًا وأوروبيًا وأفريقيًأ وأميركيًا.
حتى ذلك الحين.. ستبقى "بوابة الشرق والغرب" جزيرة منكوبة بفعل الفصيل الأربعيني أيها البشير في أربعينيتك.