كان السودان لسنوات عديدة وجهة أساسيّة ومهمة للنظام الإيراني. في هذا الجزء من السلسلة ندخل بتفاصيل المحطات التاريخية التي تتقاطع في أكثر من مصدر حول دور الحرس الثوري في السودان والارتباط مع القاعدة في أوائل تسيعينيات القرن الماضي.
ففي كتاب لتوماس جوسلين بعنوان "صفحات حرب إيران بالوكالة ضد الولايات المتحدة الأميركية" يكشف الكاتب كيف بدأت العلاقة بين تنظيم القاعدة وإيران بـ"اجتماع سرّي جرى على الأرجح بين أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الأسبق وبين قاسم سليماني" الذي كان على وشك تولي مسؤولية قيادة فيلق القدس آنذاك وهذا الاجتماع حصل في السودان.
يُعّد السودان من أكثر البلدان التي تحالفت معها إيران في القارة الأفريقية بالعقود الأخيرة. ويعـود ذلـك إلـى التقـارب الآيديولوجـي بيـن النظاميـن، فضلا عن أهميـة السـودان الجيو-سياسـية، ودور هـذا الموقـع فـي خدمـة التحـركات الإيرانيـة علـى السـاحة الإفريقية، إضافة لأهمية موقعه في التأثير علـى التوازنـات الإقليمية في المنطقة ككل.
شـهدت العلاقـة بيـن البلدين توتـرًا خـلال الثمانينيات بسـبب موقـف السـودان من الحرب الإيرانية - العراقية، لكن هذه العلاقة قد تحسنت بعد الإطاحـة بنظام الرئيس جعفر النميـري فـي أبريـل/نيسان 1985 وتولي الصـادق المهـدي رئاسـة الحكومة في 1986. وتكللت مسـاعي البلدين لتطويـر العلاقات بينهما بزيارة المهـدي لطهران، التي كان مـن نتائجها عـودة العلاقات الدبلوماسـية الكاملة بيـن البلدين، وتدعمـت العلاقات مع وصول عمر البشير إلى السلطة عام 1989.
في كتاب لستيفن أوهرن بعنوان "الحرس الثوري الإيراني.. التهديد الذي ينمو في حين تنام أميركا"، يوضح الضابـط الأميركي الذي خدم في العراق وقام بعمليات استخباراتية ضد القاعدة والميليشيات الشيعية هناك، مدى التواصل بين الحرس الثوري الإيراني و"النظام الإسلامي في السـودان" وتنظيم القاعدة، وامتداد هذا التواصل إلى الميليشيات المسلحة في الصومال، وما أدى إليه هذا التواصل من استهداف للمصالح الأميركية.
ويؤكد ستيفن أنه خلال التسعينيات وجد الحرس الثوري "موقعا صديقا" يمكنه بناء قاعدة فيه. فقـد تحالف "فيلق القـدس" مع حسـن الترابي، زعيم الجبهـة الإسلامية القوميـة بالسـودان، وبعد عام من بنـاء الحرس الثـوري لقاعدة له هناك وصل أسـامة بن لدن إليها.
وقام الرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني بزيارة للخرطوم في ديسمبر/كانون الأول 1991 وبصحبتـه قائـد الحـرس الثـوري، ونتـج عـن هـذه الزيـارة وعـدٌ مـن إيـران بتوفيـر 20 مليـون دولار من الأسـلحة والتدريبات، كانت تحتاج إليها الحكومة السودانية في إطار صراعها مع الحركة الشعبية التي كانت تسعى إلى الانفصال. وقـد سـاعد الحـرس الثـوري فـي بنـاء وتدريـب ميليشـيات الجبهـة الإسلامية القوميـة السـودانية لتتحـول إلـى نسـخة مكـررة مـن هيـكل الحـرس الثـوري المنفصـل عـن القـوات المسـلحة الإيرانية.
وفي وقت لاحق تطـورت ميليشـيات الجبهة الإسلامية وقدمت لتنظيم القاعدة مئتي جواز سفر سوداني. وقام الحرس الثوري ببناء معسكرات للتدريب في جنوب الخرطـوم قـام فيهـا بتدريـب الميليشـيات الإسلامية مـن القـرن الأفريقي وشـمال إفريقيا. ونظرا لأنّ السـودان يحده 9 دول، فاعتبرت إيران هذا البلد بمثابة نقطة ارتـكاز مثالية بالنسـبة إلى الحـرس الثوري، سـواء لمقر أو نقطـة انتقال لعمليـات أخرى في إفريقيـا، وإحـدى هـذه العمليـات كانـت عـام 1994، إذ قامـت قـوة القـدس بنقـل أسـلحة مـن إيران إلى السـودان وتـم تهريب هذه الأسـلحة للجماعـات المسـلحة الجزائرية.
وفـي الوقت نفسه كانت المئات من الحشود العسـكرية للحرس الثوري تخدم في السـودان خلال حربه في مواجهة قوات التمـرد الجنوبية. ونتيجة رصد هـذا التعاون تم إدراج السـودان في قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب في 18 أغسطس 1993.
وفي نفس السياق، قدم المحلل الاستراتيجي البارز فيليب شينون كتابه الخاص الصادر عام 2008، تحت عنوان "اللجنة: التاريخ غير الخاضع للرقابة في تحقيق 11 سبتمبر"، والذي يتناول بالدراسة العميقة طبيعة التورط الإيراني في أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وعلاقتها بـ"القاعدة" في السودان. يقول شينون: "يشير التقرير النهائي للجنة 11/ 9 إلى الصلات التي تربط إيران بـ"القاعدة" في السودان، ومع خالد شيخ محمد "مهندس عمليات الطائرات" في 9/11. ومن ثم يتضمن الكتاب نفسه قسمًا بعنوان "دعم حزب الله وإيران لتنظيم القاعدة".
ويقدم كتاب شينون بحثًا مستفيضًا عن العلاقة بين الطرفين، بدءاً من العام 1992 في السودان، مشيرًا إلى تلقي أعضاء "القاعدة" تدريبات عسكرية متطورة على أيدي ضباط إيرانيين لاستهداف المصالح الغربية، ويقول: "كان عماد مغنية وكيلاً للحرس الثوري الإيراني، ويعد مسؤولاً عن عدة عمليات استهدفت مصالح أميركية، كما استقدم مقاتلي القاعدة إلى البقاع جنوب لبنان لتدريبهم على استخدام المتفجرات، خاصة الشاحنات التي تستهدف الثكنات العسكرية الأميركية، إضافة إلى عمليات الاستخبارات والأمن".
وفق معطيات كثيرة وتقاطع معلومات وردت في كتب عالمية متخصّصة، فتح حـزب الله قواعده لعملاء القاعدة الذين سـافروا إلـى لبنان للتدريـب، وتعلموا من خبراء حزب الله كيفية تفجير عدد كبير من الأبنية. فكان لحزب الله تأثير على الجماعات السـنية، وقـد اتضـح هـذا الأمر خلال تفجيـرات السـفارتين الأميركيتين فـي نيروبـي ودار السـالم عـام ١٩٩٨، والتي كانت نسـخة عن هجمـات الحـرس الثوري التي قام بها حـزب الله ضد قـوات حفظ السلام الامريكية والفرنسـية في بيروت.
فالتقارب الشـديد بين نظـام "الإنقاذ" فـي السـودان وإيـران قد أسـهم فـي إلصـاق مزيـد مـن الاتهامات بالنظام السوداني. فقـد وصـف أحمـدي نجـاد السـودان بأنـه وطـن ثـانٍ يعـج بـ"الأشـقاء الأعـزاء الأتقياء الثورييـن". وفـي عـام 2006، أخبـر علـي خامنئـي الرئيـس السـوداني آنذاك عمـر البشـير بأن طهران مسـتعدة لنقل خبراتها وتقنياتها النووية للسـودان.
وقد تدرب ضباط من الجيش السـوداني فـي إيران، وتـم تطوير الأسلحة السـودانية المنتجة محليًا بالاعتماد على الخبرة الإيرانية. وفي مارس/آذار 2008 وقعت الدولتان اتفاقية دفاع مشترك واتهم موقع "أفريكا كونفدنشال" في تقرير له في سبتمبر/أيلول 2008 إيران بإمداد الخرطوم بأسـلحة في هجماتها ضـد دارفـور، في انتهـاك لحظر الأسلحة الـذي تفرضه عليهـا الأمم المتحـدة.
وبحسب موقع "أفريكا كونفيدنشال"، ففـي 28 أغسـطس/آب 2008 أسـقطت القيـادة الموحّدة لحركـة تحريـر السـودان طائرة إيرانية من دون طيـار طراز "أبابيل-111"، كما كشـف موقـع ويكيليكس أن نظام الخرطوم استخدم المقاتلات الإيرانية في ضرب جنوب السـودان. ولتوكيد أكثر، جمّد البشير صدور صحيفة موالية للمعارضة (رأي الشعب) لأنها نشرت موضوعًا حول إقامة الحرس الثـوري الإيراني مصنعًا لإنتاج الأسلحة في الخرطوم يعرف باسـم مصنـع "جياد".
وأوردت صحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية في عددها الصادر في 23 سبتمبر 2011، نقلا عـن تقاريـر اسـتخباراتية غربيـة، أن "وحـدات تابعـة لفيلـق القـدس توجهـت إلـى ليبيـا من قاعدتهـا في جنـوب السـودان في أعقـاب انهيـار نظـام القذافي للاسـتيلاء علـى كميات كبيـرة مـن الأسلحة المتطـورة باعتهـا موسـكو إلـى نظـام القذافـي عـام 2004، وتـم تهريـب هذه الأسـلحة عبر الحدود الليبية إلى السـودان، ووضعت في منشأة سـرية يديرها الحرس الثوري في مدينة الفاشـر، عاصمة ولاية شـمال دارفور.
وأشـارت الصحيفـة إلـى أن اتفاقيـة الدفـاع المشـترك التي وقعتهـا إيـران والسـودان، تم بموجبها نشـر المئات من جنود الحرس الثوري في السـودان للمسـاعدة في تدريب الجيش السوداني ودعم حملة الحكومة السودانية ضد الجماعات المتمردة.
أما بشأن دور إيران في الصومال ونيجيريا والسنغال وكينيا ففي الجزء المقبل. يتبع..
للإطلاع على الجزء الأول يرجى زيارة الرّابط الآتي: