ارتفع منسوب التوتر بين طهران وباريس بعد رسوم كاريكاتورية نشرتها مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة للمرشد الإيراني الأعلى السيد علي خامنئي في عددها الأربعاء، وصل حدّ تحذير ايران الحكومة الفرنسية من "رد حاسم" لما اعتبرته على لسان وزير خارجيتها عملاً مهيناً وغير لائق ضد أعلى سلطة دينية وسياسية في البلاد، من دون أن تكشف عن نوع التهديدات إن كانت ديبلوماسية أم تأخذ منحى دموياً.
في المقابل، لطالما أثبتت فرنسا تمسكها بالدفاع عن "حرية التعبير" التي يصونها الدستور ورفضت مراراً الرضوخ والاعتذار عن إساءات سابقة بحق رموز دينية أخرى رغم الرسائل الدموية التي وصلت إلى البلد ومجلة "شارلي" إيبدو على وجه الخصوص.
أفق العلاقة الفرنسية الايرانية اشتد غموضاً بعد ردة الفعل الإيرانية الحادة على الكاريكاتور كما أن مسألة الرهائن الفرنسيين في طهران من شأنها أن تزداد تعقيداً.
وكانت المجلة الأسبوعية أطلقت في الثامن من ديسمبر/كانون الأول من العام المنصرم، مسابقة رسوم كاريكاتورية لمرشد الجمهورية الإيرانية تحت عنوان "خلع خامنئي!" بهدف "دعم نضال الشعب الإيراني من أجل الحرية من خلال الاستهزاء بالمسؤول الديني الرفيع المستوى الذي ينتمي إلى عصر آخر وإلقائه في مزبلة التاريخ" كما أعلنت.
وسبق لمجلة "شارلي إيبدو" أن تعرضت لهجوم من قبل متطرفين إسلاميين في عام 2015 لنشرها رسوم كاريكاتورية لنبي الإسلام، قتل فيه 17 شخصًا، من بينهم 12 عضوًا في تحرير هذه المجلة و3 من المهاجمين.
كما نشرت المجلة مرات عديدة رسوماً كاريكاتورية ساخرة لرموز دينية مسيحية ويهودية وغيرها من الديانات.
علاقة استراتيجية
الأمين العام للمجلس الإسلامي العربي السيد محمد علي الحسيني أكد في اتصال مع "جسور" أن "علاقة فرنسا بإيران استراتيجية، لكون الدولتين محكومتان بالتفاهم الدائم، نظراً لالتقاء مصالحهما في العديد من مناطق العالم من دون أن يمنع ذلك من تأثرها بأزمة من هنا أو هناك".
وأشار إلى عمق العلاقة تاريخياً بين الدولتين "فرنسا قدمت الملجأ والمقر للسيد الخميني قبل عودته إلى إيران واستلام السلطة فيها" لافتاً إلى التمايز في التعاطي الفرنسي عن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا مع جمهورية الخميني "الامر الملاحظ أيضاً في مفاوضات الاتفاق النووي والعقوبات في الوقت الراهن، ومن خلال استمرار التواصل الفرنسي مع حزب الله".
مصالح متبادلة
ويعتبر السيد الحسيني أن سبب الأزمة المعلن يختلف عن السبب الحقيقي "تفجرت الأزمة نتيجة خلاف عميق يتعلق بملفات عدة أبرزها الحرب الروسية ضد أوكرانيا" مرجحاً بالتالي أن تكون "عابرة وتنتهي ببعض الإجراءات السياسية والدبلوماسية لا أكثر" مضيفاً أن "إيران لن تغامر وتعرّض الأمن الفرنسي للخطر، بل ستحسبها جيدا، وتحاول الإستفادة من هذه الأزمة للحصول على مكاسب معينة".
الجانب الفرنسي سيعمل "على لملمة القضية لأن مصلحته تقتضي الحفاظ على التواصل مع خصوم الولايات المتحدة في الشرق الاوسط" كما أردف.
أمور عدة ستساهم بتجاوز الأزمة على حد قول السيد الحسيني "أهمها كون صحيفة شارلي إيبدو ليست حكومية بل مستقلة تماما ولا تخضع لسلطة الدولة الفرنسية، وقد سبق لها أن هاجمت الكثير من الرموز الدينية انطلاقا من موقفها المبدئي المعادي للاديان".
أمر آخر لا يقل أهمية، وفقاً له "كون الشخصية الإيرانية المستهدفة، بالكاريكاتور، أي الخامنئي "ليست شخصية مقدسة إسلاميا أو شيعيا ، وإنما هي شخصية سياسية بامتياز بالتالي لا يشكل انتقاده ذما بالدين بأي شكل من الاشكال".
فرنسا لن تهتز والسبب؟
من جهته، أشار الخبير القانوني في المفوضية الأوروبية الدكتور محي الدين شحيمي في حديث لـ"جسور" أن "مفهوم الدولة في فرنسا مبني على المسلمات الثلاث، الحرية والعدالة والأخوة التي شكلت ركائز الفكر الفرنسي ومؤسسات جمهوريته الحالية" موضحاً أنها تملك كامل القوة الدستورية والقانونية.
وأضاف شحيمي "حرية التعبير في فرنسا مصانة ومقدسة، وإن لم تمثّل الرأي الرسمي أحياناً أو حتى خالفت القوانين والانتظام العام. والمخوّل الوحيد لمحاسبتها هو القضاء الفرنسي" كما أكد أن "الرأي يعبر عنه بالرأي وليس بالتهديد".
واعتبر في المقابل أن"حق ايران بالاعتراض على الرسوم الكاريكاتورية دستورياً مصان ومقدس لكنه أضاف أن "خروج طهران عن الأطر الدبلوماسية وتحويلها الصراعات الفكرية واختلاف الرأي إلى حروب وتهديدات إرهابية لن يجدي نفعاً باعتبار أن فرنسا والحريات توأمان لا ينفصلان ولن تغيّر من مبادئها لا بالتهديد أو بغيره".
الرهائن ضمن المصالح
وتابع شحيمي: إن "الاشكالية الأخيرة المتعلقة بالرسم الكاريكاتوري لـ"شارلي إيبدو" وبغض النظر من تأييده او عدمه، أثبتت بأن إيران تسلك مسار انحراف انعزالي وسلبي بشكل مشهود، وتظهر كدولة لا تشبه المنظومة الدولية ولا تعترف بالاتفاقيات الدولية والقانون الدولي وإنما تستخدمها لصالحها في وقت هي تقدره".
واعتبر في الختام أن أي إجراء في قضية الرهائن الفرنسيين القابعين في السجون الإيرانية مقرونة بملفات أكبر على الساحة السياسية وأبرزها الملف النووي إضافة إلى ملفات إقليمية ودولية أخرى.
وفي الارتدادات المباشرة، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية عن إغلاق المعهد الفرنسي للبحوث في إيران (إفري) في حين اعتبرت باريس أن اغلاق المعهد الفرنسي للبحوث في إيران "مؤسف في حال تأكد".