السُّقوط المدوّي للقانون الَّدولي في بُعدَيه السِّياديّ الدَّوليّ والإنسانيّ الحقوقيّ يَضَعُ العَالَمَ بأسرِه على فُوهَةِ بركان. لم يأتِ هذا السُّقوط عفويًّا بمعنى أنَّهُ وليدُ حِقباتٍ تاريخيَّة يفرِضُها مسار الأحداث، بل هُو يدينُ لانعِدام وزنٍ قِياديّ أخلاقيّ في مُربَّعَاتِ صِناعَة القرار.
الغَربُ انحازَ تاريخيًّا لتأييدِ بعضٍ من تَفَوقِّه إلى الاستِثمار في التَّنَاقُضات. أتى هذا الاستِثمار مخالِفًا بِشَكلٍ راديكاليّ لكُلِّ القِيَم الذي ادَّعى حَملَها. التَّطبيع مع مُعَسكر اغتيال حقوق الإنسان، ومربَّع الديكتاتوريَّات الثيوقراطيَّة والعلمانيَّة والأوتوقراطيَّة، وملاذات الجريمة المنَّظمة، انهى التطلُّع بثِقَةِ الحدِّ الأدنى الى حقيقَةِ هذه القِيَم. أدَّت الأَحلافُ الموضوعيَّة بين محوَرين يتقاطعان في الأَهداف، ويتنافران في الرؤية، أدَّت إلى تفكيك بُنيَةِ تعزيز الأمن والسِّلم الدَّوليّين.
تبدَّى الشَّرق الأَوسَط في هذا السِّياق أصدق تعبير عن هذا المأزِق المُزعزِع لليبراليَّة، والحريَّة، والعدالة، والتعدُّديَّة، والديموقراطيَّة. وإذا ما كانَت الحروب الدَّائِرةُ على أراضي دُولي بالأصالة أو بالوكالة، تحكي كارثيَّة هذا المأزق، فإنَّ ثمَّة ما يَجمَعُ في عُمقِها بين المسيَّرات المُفَخَّخة والهجرة المكثَّفة، ويُشَكِّلُ جَوهَرَ قِياس الارتِباك الدَّوليّ والإقليميّ، عنينا مَفهوُم الشَّرعية.
المسيَّراتُ المُفَخَّخة تعبُر كُلَّ الحدود الجُغرافيَّة، بحيثُ تستحيلُ معها سياداتُ هذه الدُّول ، والدُّستوريَّة، والدّيموغرافيَّة، تستحيلُ جثَّةً هامِدَة. تفوُّق التكنولوجيا يقُودُ عمليَّات الاغتيالِ هذه للشرعيَّة المؤسِّسة لِأيّ دَولة. الحديثُ عن تفوُّق التكنولوجيا وعلى الرَّغمِ من حقيقتِه الدَّامِغة، يبقى تفصيلًا في مرامي التكنولوجيا الاستراتيجيَّة. تحتاجُ هذه إلى فَهمِ منطق الإخضَاع اللَّامشروط الذي يُريدُهُ أصحابُ هذه المرامي لتكريسِ ذواتِهم وحلفائهم فاعِلين في جرائِم الانقِلاب على كُلِّ من ينتمي إلى ثقافَة القانون. المسيَّرات المُفخَّخة تُحاكي برمزيَّتها المعنويَّة الانخِراط في تشييد عمارَة قانونٍ دوليّ جديد، لم تبرُز ملامِحُ خياراتِه حتَّى السَّاعة، عدا التَّعطيل والتَّشويش على كُلّ القضايا المُحِقَّة، وغالِبًا ما تَحمِل مِشعَلِها.
أمَّا الهجرة المكثَّفة فتعبُر كُلّ الحدود الجغرافيَّة أيضًا، بحيثُ تُمسِي الهويَّات الوطنيَّة لبناتِها وأبنائها من فِعلِ التَّمَوضُعِ في "متحفيَّةٍ" قاتِمَة، تنهَشُ أصالة التُّراثاتِ الإنسانيَّة الموضعيَّة، لِصَالِحِ تنميطٍ يعتبِرُ هذه أو تِلك من الرُّقَعِ الجُغرافيَّة أكثر قُدرَة على تقديمِ نموذج احتِضانٍ لكرامَةِ الإنسان. فيما قد تكون هذه أو تِلك في عُقرِ دار تهشيمِ هذه الكرامَة خارِج مسَاحتِها. السِّمَةُ عينها تنطبِقُ على تِلك الأيديولوجيَّات الباحِثَةِ عن قَتلٍ مُتَعمَّد للهوِّيات الوطنيَّة كُرمى تزخيم الهُويَّات الفرعيَّة، ومنها الدّينيَّة الطَّائفيَّة والمذهبيَّة.
بالاستِناد إلى هذه المُعادلة الرَّجراجة، وتكوُّناتِها غيرِ المُكتمِلَة العناصِر، تبقى مسألَةُ الشرعيَّة قيد الاستِهداف، إذ حينَ يتمّ شَنقُ هذه الشرعيَّة بفِعلٍ تخوينيّ لمرتكزاتِها، يَطلعُ على امتِدادِ الكَون ظواهِرُ تقتاتُ من الجريمة المنَّظمة. الظَّواهِرُ هذه مؤذِية. إقتِلاعُها يتطلَّبُ حكمةً وهدوءًا، والأَهَمّ توسيع رُقعَة التَّحالفات. الحكمة والهدوء لا يعنيان انكِسارًا، بل عقلانيَّة تخترقُ ردَّة الفِعل إلى إطلاقِ ديناميَّاتِ تغيير أبَعد من الحَركيَّة الفلوكلوريَّة البحتة. هي الشرعيَّة تستصرِخُ ضمير كُلّ الأحرار في العالَم.