رؤوف علي، أحد العمّال القدامى في هذا المعمل، يقول لـ"جسور"، إن "صناعة الملح قد يظن البعض بأنها قطاع محدود، لكن الحقيقة مختلفة، فهي مادة يستهلك منها آلاف الأطنان شهرياً على مستوى البلاد"، مبيناً أنّ "هناك دولاً تربح اليوم ملايين الدولارات نتيجة غياب صناعة الملح في العراق".
وأضاف علي أنّ "المعمل هذا كان ينتج ملح الطعام لأكثر من 22 سنة قبل أن تغلق أبوابه بعد 2003 بسبب الأوضاع الفوضوية آنذاك"، مشيراً إلى وجود "3 معامل أخرى صغيرة لم يبق منها سوى معمل واحد وبطاقة ربما أقل من 10%".
أما عبيد العزاوي، وهو صاحب أسواق تجارية، يستذكر في حديثه مع "جسور"، معامل صناعة الملح التي "انتشرت في 7 محافظات خلال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، وكان هناك عدة أسماء معروفة، ونادراً ما تجد أملاحاً مستوردة بالأسواق في ظل وجود جودة للمنتج الوطني".
وبعد 2003، اختفت الأملاح العراقية ـ والكلام للعزاوي ـ وبدأ "المستورد يهيمن على قرابة 90% من هذا القطاع، رغم أن "البلاد تضم ممالح ضخمة قادرة على تأمين الملح الخام وبكميات كبيرة جداً بفعل طبيعة الجغرافية".
الخبير الاقتصادي هيثم العزاوي، يشير في حديثه لـ"جسور"، إلى أن "الملح الخام كان يجلب من ممالح قريبة عبر مبازل متناثرة بعضها قرب منطقة الهاشميات، وأخرى في أطراف خان بني سعد، من خلال شرائها من الأهالي"، كما أنّ "بعض الممالح يمكن رؤية بقاياها على طريق بعقوبة- بغداد قرب جديدة الشط من الجهة اليسرى".
ويقول إنّ "الأملاح تخضع لمعالجات ليست معقدة قبل أن يصبح المنتوج جاهزاً للتسويق"، بالإضافة إلى أنّ "العراق يضم ممالح ضخمة في الجنوب يمكن أن توفر الاكتفاء الذاتي".
ونتيجة تعطيل معامل الملح، يقول العزاوي إنّ "العراق اليوم، يستورد سنوياً بملايين الدولارات الأملاح من عدة دول، بينها إيران وتركيا والأردن، رغم توفر كل الإمكانيات التي تدفع إلى إنهاء ملف الاستيراد وتحقيق الاكتفاء الذاتي".
وعلى الرغم من قدم صناعة الملح في العراق، والتي تدخل في أغلب الأطعمة التي يتناولها الناس بحيث أطلقوا عليها اسم "الذهب الأبيض"، إلا أنها مهددة بالاندثار، بسبب الإهمال وعدم وجود خطط حكومية لدعمها والمحافظة عليها.
"غياب الدعم الحكومي"
مدير ناحية بني سعد (22 كم جنوب غرب بعقوبة) نجم السعدي، يوضح لـ"جسور"، أنّ "الناحية كانت من أهم مصادر تسويق الأملاح للأسواق في البلاد منذ عقود قبل أن تلفظ المعامل أنفاسها بسبب ضعف الدعم وإغراق الأسواق بالمستورد".
ويبين السعدي أنّ "صناعة الملح هي نموذج لما تعرضت له الصناعات المحلية من ضرر بسبب غياب الدعم والرعاية الحكومية، رغم جودتها وإمكانية أن تحقق الاكتفاء الذاتي، ناهيك عن إمكانية أن تتحول إلى قطاع اقتصادي يدر أرباحاً وفيرة ويوفر فرض عمل مضاعفة للعاطلين".
"أمر بالغ الخطورة"
ونتيجة لذلك، يرى عضو مجلس النواب سالم إبراهيم، أن "90% من احتياجات الأسواق العراقية، أصبحت تأتي من خلال الاستيراد"، مؤكداً أنّ "هذا أمر بالغ الخطورة في موازين الاقتصاد".
ويقول إبراهيم، لـ"جسور"، إنّ "الملح وهي مادة مهمة رغم توفر كل ظروف إنتاجها لكن يجري استيرادها وبكلف تصل إلى ملايين الدولارات سنوياً"، مبيناً أنه "ومن دون صناعة وإنتاج محلي ستبقى الأسواق العراقية رهينة تقلبات ما يحدث في الخارج".
وشدد ابراهيم على ضرورة "إعادة النظر في دعم خطط إعادة إحياء الصناعات الغذائية كمرحلة أولى من أجل تقليل فاتورة الاستيراد على الأقل".
ويؤكد العديد من المراقبين على ضرورة تدخل الحكومة لإنقاذ الصناعة العراقية من خلال وضع تشريعات تقلل من المستورد وتدعم الصناعات الملحية، وهذا سوف يخلق الكثير من فرص العمل الجديدة التي بإمكانها المساهمة في تقليل عدد العاطلين عن العمل في البلاد، وفق رأيهم.