لم تخترع الموسيقية والمسرحية والكاتبة سوسن شوربا، الذرّة. ولم تفز بانتخابات رئاسة جمهورية لبنان. ولم تفز بجائزة نوبل، أو بجائزة الأولمبياد الرياضية. بل هي أضْحَكَتْ المئات منا رجالاً ونساءً، وزرعت في قلوبنا الفرح، ومنحتنا مفاتيح صغيرة لنفتح في زوايا عقولنا مساحة للتفكير خارج الصندوق الأسود الذي يأتي كلما ذُكر مرض السرطان!
فحوّلت الدمعة الى قهقهة، والذكرى السيّئة الى نغمة، والخوف الى إصرار، والثرثرة الى بوح وسرد شاعري في مسرحية "مورفين" (كتابة وإخراج يحيى جابر)، وقبلها في مسرحية "فولار" (كتابة ديمتري ملكي وإخراج شادي الهبر) وفي كتابها "الحب لحظات".
هي مناضلة بلغة المؤسسات والسياسة والأحزاب، من الدرجة الأولى. محاربة، بلغة العسكر. وفنانة مثابرة وموهوبة وشغوفة ومسؤولة وجبّارة، بلغة المسرح وبلغة مَن عملوا معها.
هي امرأة كانت لتكون عابرة، لكنها حوّلت حياتها العادية والروتينية المُشبعة بالوجع والآلام والمسكّنات، الى حياة مُثمرة تمنح الآخرين السعادة والفرح وتنثر الورود والكلمات الطيّبة وحب الحياة، وترسم على وجوههم ضحكة.
دراما أم تحدّي؟
تلك المرأة الأربعينية الجميلة التي لا تترك البسمة ثغرها. أم رؤوم ربّت ولدان ناجحان أكاديمياً ومهنياً. إبنة حنونة وزوجة مُحبّة حوّلت الشوك الى ورد... ومع براعتها في التمثيل إلا أنها لم تحوّل حياتها اليومية الى دراما! بل حوّلتها الى تحدّي... لهذا كلّه تستحقّ التنويه والاحتفاء بها في اليوم العالمي للمرأة.
سوسن شوربة ليست أول امرأة تُصاب بالسرطان في عمر مُبكّر... لكنها من القلائل اللواتي نجحنَ على مدار 13 عاماً، في مكافحة هذا المرض الخبيث الذي يخاف الناس حتى الاعتراف بالإصابة به. عازفة البيانو التي تعلّمت من الموسيقى الصبر وأهمية التكرار والإصغاء جيداً لأحاسيسها وحدسها وطموحاتها، قرّرت منذ اللحظة الأولى لإصابتها بسرطان الثدي أن الحرب واقعة وأنها لن تقبل بالخسارة. فما هو النجاح هنا وجسدها مهدّد، بعدما استأصلت الثديين ثم انتقل المرض الى العظام والكبد والرئتين؟
تقول شوربا في مقابلة مع "جسور: "النجاح بالمواجهة وبالتصالح مع المرض وتحويل الألم الى مادة إبداعية تمنحني الأمل وتستجيب لطموحاتي التي لم أرضَ أن يخنقها السرطان".
شارل أزنافور... الأمل
وتروي كيف قررت أن تصنع من تجربة السرطان أمراً مهماً في حياتها وتحقيق أماني وأحلام، لطالما كانت في مخطّطاتها لكنها مؤجّلة. وتصرّح "نلت إجازة في علوم الموسيقى، وبدأت دراسة المسرح لكنني لم أستطع الاستمرار حتى نيل الاجازة، لكن السرطان حثّني على العودة الى شغفي الأول. فقرّرت أن أفعل كل ما كنت أحلم به دفعة واحدة بدءاً من السفر وزيارة أكثر المدن التي أحبها، الى التعرف الى المغني الأرميني الراحل شارل أزنافور وحضور حفلاته، وصولاً الى التمثيل المسرحي والكتابة وتفجير مواهبي".
رافقت أغاني أزنافور الرومانسية والشاعرية جلسات العلاج الكيميائي لسوسن وما أكثرها. "كنت أغمض عينيّ وأسمع أغانيه مستمدّة منها الأمل والحب والسفر عبر النغمات".
ومن ثمّ استعادت قوّتها البدنية لتلحق به الى 36 حفلة جال بها العالم. وخطّت عن سابق إصرار وتصميم أن تتعرف عليه عبر عازف البيانو المرافق له، حتى التقيا في فرانكفورت ونشأت صداقة لطيفة بينهما... ودعته الى لبنان وزارها في بيتها وتناول العشائ مع عائلتها... وأصبحت سوسن شوربا حديث الصحافة الفرنسية لكونها من أكثر النساء اللواتي تابعنا جولاتها، وخصوصاً في باريس حيث حضرت 10 حفلات لصاحب أغنية "La Bohème" في وقت قصير. وحكت: "أزنافور لم يكن فقط مطرباً وفناناً وملحناً، بل هو عَالم واسع وكبير من الخيال والابداع والذكريات، استطاع أن يُنسني السرطان وينقلني الى ضفة الخيال". لكن موت أزنافور أرهقها: "كان أصعب يوم في حياتي، لكن ما واساني أن العظماء لا يموتون".
قوّة الأمومة
عندما أصيبت أستاذة الموسيقى في الثالث والثلاثين من عمرها بالسرطات، كانت تعلّم عشرات الطلاب كيف يفكّون مفاتيح البيانو وعلّمت نفسها كيف تفكّ ألغاز هذا المرض الذي يصيب ملايين السناء سنوياً حول العالم وغالبيتهنّ يمتن من الخوف والوهن والضعف ويستسلمن للمرض. لكن سوسن شوربا منحها المرض القوّة كما تؤكد. "كنت منذ البداية صلبة والمرض منحني قوّة هي قوّة الأمومة. عندها كانت غريزة الأمومة هي التي تحرّك كل شيء: فالسؤال الأول كيف سأحميهما من رؤية أمهما تتألم وكيف سأعوّض عليهما الوقت الضائع وماذا يمكنني أن أفعل كي أجنّبهما الكآبة والفقد في المستقبل".
وانطلقت شوربا من مهمّتها ومشاعرها كأم، ثم كزوجة وصديقة وأخت وإبنة... "أنا عادة باردة ولا أخاف وأكره دور "الدراما كوين"... فلم أذرف ولا دمعة وكنت قدوة لمَن حولي، كنت أهدّئ من روعهم ومعاناتهم وخوفهم عليّ، وعندما يرونني قوية ومبتسمة كانوا يستمدّون مني القوّة".
التصالح مع الموت
لم تُفكّر المرأة الهادئة يوماً بالموت، "لا يخطر ببالي إلا كخيار علمي كنتيجة لوهن الجسد. أنا متصالحة مع الموت منذ اللحظة الأولى إذ كل واحد منا معرّض للموت، فلماذا أحبس نفسي في البيت وأنتظر الموت؟". فأخذت خيار التلاعب مع الموت ومصارعته بدل الاستسلام له. وتسأل نفسها: "لما أنا هكذا؟ هل هذا انعكاس لتروما ما؟"، إنما لم تجد جواباً وهي لا تعطي الموت كثيراً من التفكير أًصلاً، لأن همّها الوحيد هو شغفها بالمسرح. وتعترف سوسن شوربا: "أحياناً أحضّر نفسي للموت من دون شعور بالخوف، بل بسلام وهدوء وشعور بالاكتفاء والرضا، خصوصاً بعدما حصدتُ نجاحات في المسرح الذي لطالما حلمت به". وتبوح لجسور: "كتبت رسائل لصديقتي الحميمة ولأطفالي، الى هذه الدرجة متصالحة، لكن لا يخلو الأمر أحياناً من حمل همّ الأحباب والأصحاب والأهل والأطفال والغاليين على قلبنا، من لوعة الفقد".
مورفين... الخيال
تعتبر سوسن شوربا أن المسرح يضاهي المتعة والنشوة، وهو بمثابة المورفين أو المخدّر للأوجاع التي لا تحتمل جراء السرطان المنتشر اليوم في الكبد والعظام والرئتان. من هنا أتى عنوان المسرحية التي قدّمتها في شباط (فبراير) الماضي، وستقدمها في 26 آذار (مارس) المقبل على مسرح المدينة في بيروت. "هو عنوان مستوحى من حالة الهذيان وما كنت أتعاطاه خلال مرضي من مسكّنات ومورفين حتى أدمنت عليه وتعذّبت كثيراً جراءه"، تؤكد شوربا متحدثة بألم. لكن عيناها تلمعان عندما تخبر قصّتها مع هذه المسرحية بالذات التي جعلتها تخفّت عيار المورفين من 400 ملليغرام كل أربع ساعات الى 4 ملليغرام باليوم.
"في مسرحية "مورفين" تحديداً، شعرت بأنني وصلت الى كل ما أريد خصوصاً بعدما كتب النقاد والصحافيون والمسرحيون نقداً إيجابياً لم أكن أتوقّعه"، تقول. وتضيف: "سلّمت نفسي للساحر والمكتشف لموهبتي الكوميدية مع أنني كنت أتجه الى التمثيل الدرامي، فهو طبّاخ ماهر وكتب من قصتي نصاً بديعاً، وإن كنا تعاونّا على كتابته، لكنني صاحبة القصة وهو الحرّيف... أخذ معنا النص شهوراً بين اكتشاف ذاتي وطفولتي وأعماقي وشخصيتي وأوجاعي الجسدية والنفسية".
المسرح علاجي
سمِعت سوسن رأي المخرج وأصبحت عجينة خام بين يديه، "خرجت من ذاتي في هذه المسرحية وتحدّيت نفسي خصوصاً أنني مدمنة على المورفين وكنت أحاول الإقلاع عنه تزامناً مع التمرينات والعلاج الكيميائي".
"كنت أخضع للعلاج أثناء التمارين على مسرحية "مورفين" وما زلت، وكنت من المستشفى الى التمارين والعكس. كل وقفة على المسرح تشعرني بالسعادة وكل جملة أشارك يحيى جابر في كتابتها كانت تعيد لقلبي النبضات والأدرينالين"... كانت سوسن تقول ليحيى أن" المسرحية أهم من صحتي... شغفي بالمسرح أهم من حياتي... عندما أقف على الخشبة كانت قوتي تتضاعف 10 أضعاف ولا أدري من أين يستعين جسدي بهذه القوة؟ هو فعلاً علاجي ويمكن سبب وجودي على قيد الحياة حتى الآن فمن قال إنني سأعيش كي أقدّم المسرحية؟". لكنها تجيب على أسئلتها أن "هذه المسرحية كانت امتحانا ومسؤولية يومية وتجلب لي السعادة التي أعتبرها علاج حقيقي ومخدّر".
لكن لسوسن المرأة المناضلة والفنانة التي حوّلت قصتها مع السرطان الى كوميديا، رسالة في اليوم العالمي للمرأة بأن تبدأ حياتها بالخيال والخيال والخيال لتعالج كل أوجاعها.